للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الثَّالث: أنَّ الحديث أخبرَ عن أمرٍ غَيبيٍّ، لا يَقع للعقل إدراك كُنْهِهِ؛ لعجزِه من جِهة، ولقصورِ الواسطة النَّاقلة للعقلِ -وهي: الحواسُّ- عن تحصُّل هذا الإدراك من جهة أخرى؛ فإذا تحقَّق ذلك، فلا طريق إلى معرفة هذا الغيب إلَّا عن طريق الوحي، وحينئذٍ يجب الإيمان بما أخبر به الصَّادق صلى الله عليه وسلم؛ وذلك مِن مقتضيات الإيمان بالرَّسول صلى الله عليه وسلم.

وبناءً على ما قُرِّر، يَتبيَّن لك أنَّ دعوى المعترض أن لو كانت الدِّيَكة تصيح عند رؤيتها للملائكة، مع كون كلِّ إنسان محاطًا بملائكة يحفظونه، ومَلكين يكتبان أعماله؛ للَزِم مِن ذلك أن تصيح كلَّ وقت: هي دعوى باطلة، ذلك:

أنَّ حصول صياح الدِّيَكة عند رؤية مَلَك، وكذا نهيق الحمار عند رؤية شيطان؛ لا يلزم منهما أن يكونا عند رؤيةِ كلِّ مَلَك أو كلِّ شيطان؛ لأنَّ الَّذي أشهدَ كُلًّا منهما لرؤيةِ ما لا يراه البشر: قادرٌ أن يحجُب عن الدِّيَكة رؤيةَ الملائكةِ الحَفَظة والمُوكَّلين بكتابة الأعمال؛ ويحجُبَ عن الحمارِ: قرينَ الإنسان، وهذا القرين نفسُه الَّذي يُدْبِر لِسماعِه الأَذَان، فهما نوعٌ واحد (١).

وكما عَلِمنا بدلالة الواقع عدمَ شهودِ الدِّيَكة رؤيةَ كلِّ أنواع الملائكة، وعدمَ شهود الحمير كلَّ أنواع الشَّياطين، فإنَّ في بعض الأحاديث ما يُعلِم بأنَّ هذا الشُّهود لا يقع لها في كلِّ حين، بل هي محصورة في اللَّيل.

جاء القيدُ بهذا في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه رواها الثِّقات (٢) بلفظ: «إذا سمعتُم صياحَ الدِّيكة باللَّيلِ؛ فاسألوا الله من فضلهِ، فإنَّها رأت ملَكًا، وإذا سمعتُم نهيقَ الحمارِ باللَّيلِ؛ فتعوَّذُوا باللهِ من الشَّيطانِ؛ فإنهُ رأى شيطانًا» (٣).


(١) بأمارةِ وسوستِه للمُصلِّي في حديث الإدبار بقوله: « .. اُذْكُر كذا، اذْكُر كذا .. لِمَا لم يَكُنْ يَذْكُر .. »، وفي هذا التَّذكير منه بأمور تخصُّ المُصلِّي، وتعدادها عليه: أَمَارةٌ على معرفته الكاملةِ بهذا الإنسان ومُتعلَّقاته اليومِيَّة، ولا يتمُّ هذا إلَّا باقترانٍ منه وملازمة.
(٢) انظر «سلسلة الأحاديث الصَّحيحة» للألباني (٧/ ٥٦٠).
(٣) أخرجه النسائي في «السُّنن الكبرى» (ك: عمل اليوم والليلة، باب: ما يقول إذا سمع نهيق الحمير، رقم: ١٠٧١٣)، وأحمد في «المسند» (رقم: ٨٦٧٤)، وقال أحمد شاكر: «إسناده صحيح»

<<  <  ج: ص:  >  >>