للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال الثوري مرة لما عاتبه في تقليب الدنانير: لولا هذه لتمندل بنا بنو العباس «١» .

وقال أيضا: لأن أخلف عدة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إليّ من أن احتاج إلى الناس. وجاء عنه أنه قال: المال في هذا الزمان سلاح المؤمن.

وقال سفيان بن عيينة: من كان له مال فليصلحه. ذكر هذه الآثار عنهم الحافظ السخاوي في جواب له في الباب. وفيه أيضا عن أبي الدرداء: من فقه الرجل استصلاحه معيشته. وأورد الزمخشري في الكشاف عند قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء: ٥] شيئا من هذا. وكيفما كان الحال؛ فإن ذلك مما يدل ولا إشكال على اهتمام الشريعة الإسلامية بنظام حياتك، وإرشادك إلى استثمار ينابيع الثروة، وأساليب المعيشة الهنيئة. ذلك النظام الذي سنّه لك الإسلام؛ وهو مادة نظام العالم المتمدن اليوم، إن لم يكن جميعه فمعظمه. وأنت أيها المسلم ساه لاه.

وفي «الروض الأنف» أن العلاء بن الحضرمي لما قدم على المنذر بن ساوى وخاطبه في الإسلام وشرائعه أجابه المنذر بقوله: قد نظرت في هذا الأمر الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فوجدته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت، ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وعجبت اليوم ممن يرده وإن من إعظام من جاء به أن يعظم رسوله انظر ص ٣٥٦ من الجزء الثاني. وفيه أيضا أن الجلندى لما قدم عليه عمرو بن العاص قال له: انظر في هذا النبي الأمي الذي جاء بالدنيا والآخرة.

لهذا وشبهه عنّ لنا أن تكون عنايتنا في التدوين بالتراتيب الإدارية، والحرف والصنائع والمتاجر وأنواع العلوم والمشخصات التي كانت على عهد تأسيس المدنية الإسلامية النبوية، حتى يعلم الناس من أبناء ملتنا وعشق التاريخ من غيرهم، أن النبي العربي قد مدّن الشعوب، ورقّى الأمم بما أسس لهم من مباني العمران وسنّ من أنظمة التقدم وأنه يمر بك كثيرا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بهذا الرقي والعمران بما أنزل الله عليه من آي ذلك وأساليبه. ولكن غفلوا عن ذكر كيفية تمشية ذلك النظام في ذلك الزمان، وحراس تلك التمشية، الذين كانوا يسهلون على الشعب العمل باداب ذلك وأساليبه، ويسهرون على تمسك الأفراد بها.

وقد يقال: إنك أسأت الأدب وقرعت أبواب العطن بذكرك في سمرك هذا المصطفى صلى الله عليه وسلم نظاميا ملكا وأصحابه قوادا وولاة.

قلت: هذا من ضيق العطن ورمي الفطن وإلا فالبشر كلهم بشر ولكن فيهم الصالح والطالح في بشريتهم، والكامل والأكمل والنبيه والأنبه، والرذيل والأرذل. فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدهم لا كالقواد، وأميرهم لا كالأمراء لمكانهم من القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسماعهم الوحي الطري والعلم الصحيح، كما أن المصطفى صلى الله عليه وسلم بشر لا كالبشر، وملك لا


(١) ربما الصواب هو: قال عبد الله بن المبارك للثوري.

<<  <  ج: ص:  >  >>