وكان محيطها مبنيا باللبن، وقواطعها الداخلة من الحديد المكسو بالطين والمسوح الصوفية، وجعل لها أبواب منافذ متقنة الهواء، داعية إلى السهولة في الدخول والخروج وخفة الحركة، مع وفر الزمن والسرعة إلى المقصد وان منزل السيدة عائشة صفة إلى منزل السيدة فاطمة، وكان به فتحة إلى القبلة. يؤيد ذلك قول ابن زبالة: كان بين بيت حفصة ومنزل عائشة طريق، وكانتا تتهاديان الكلام، وهما في منزلهما من قرب ما بينهما، وكان بيت حفصة على يمين خوخة آل عمر، في جنوب بيت عائشة إلى الشرق، وكان من دونهما منازل بقية الأزواج الطاهرات. وكان بمنزل فاطمة شباك يطل على منزل أبيها وكان صلى الله عليه وسلم يستطلع أمرها منه.
«قال السهيلي في الروض: إن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم كانت تسعة بعضها من جريد مطين بالطين، وسقفها جريد وبعضها من حجارة موضوعة بعضها على بعض مسقفة بالجريد أيضا، وكان لكل بيت حجرة وهي أكسية من شعر مربوطة بخشب العرعر اهـ» .
أقول: إذا علمت أنها تسعة وأن كل بيت لا بد له من محل لقضاء الحاجة، ومحل لمئونة السنة والطبخ ومحل للقاء الناس، ومحل لمبيت النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجته الطاهرة، وإن زدتها محل خزائن السلاح وأدوات النقل، ومحل الدواب والخيل والنعم والحمير، وغير ذلك من الممتلكات النبوية، وممتلكات بيت المال مع دار الضيوف، والسجن ومحل المرضى، ومحل أهل الصفة وغير ذلك من الضروريات ظهر لك عظم تلك المباني، وسعة تلك المرافق، وهذه الضروريات التي الإتساع في البناء ضروري لها يجهلها أكثر الناس اليوم. ويظنون أن مساكن النبي صلى الله عليه وسلم كانت في نهاية الضيق والقلة. ولعمري إذا أمكنه صلى الله عليه وسلم ذلك في المبادي، فكيف لا يتسع أكثر من ذلك في آخر امره ولو عاش في المدينة بعد الهجرة أكثر من عشر سنوات؟ وكان يشتغل فيها بغير الحروب وتوجيه البعوث وإرسال السرايا إلى الجهات فانظر ماذا كان يصنع.
[الدكة لجلوسه عليه السلام]
«ذكر أبو محمد ابن حيّان في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة وأبي ذر: كان صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا منه أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين يجلس عليه ونجلس بجانبيه»«١» .
الحديث بذلك في صحيح مسلم في كتاب الإيمان في قصة مجيء جبريل، فاقتصار الخزاعي في العزو لمن ذكر ذهول وغفلة، وكان محل هذه الدكة هو الذي يعرف الآن في
(١) عثرت على هذا الحديث في سنن أبي داود ج ٥ ص ٧٤ ورقمه ٤٦٩٨ وألفاظه قريبة جدا من النص أعلاه.