وفي العتبية قال مالك: كان عمر قد أراد أن يكتب الأحاديث وكتب منها ثم قال: لا كتاب مع كتاب الله. قال ابن رشد في البيان والتحصيل: المعنى في هذا أن عمر كان أراد أن يكتب الأحاديث المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجعلها أصلا يحمل الناس عليها، كما يفعل بالقرآن فتوقف عن ذلك، إذ لا يقطع على صحة نقل الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما يقطع على صحة نقل القرآن الذي قد نقل بالتواتر، فرأى أن يكل أمر الأحاديث إلى الاجتهاد والنظر في صحتها، ووجوب العمل بها. وأما أن يكتب الرجل الحديث قد رواه ليتذكره ولا ينساه فلا كراهية في ذلك، وقد حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث فجاء رجل من أهل اليمن فقال: أكتب لي يا رسول الله فقال: أكتبوا لأبي فلان. وقال أبو هريرة: ما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب. ولولا أن العلماء قيدوا الحديث، ودوّنوه وضبطوه وميزوا الصحيح منه من السقيم لدرس العلم، وعمي أثر الدين فالله يجازيهم عن اجتهادهم في ذلك بافضل الجزاء اهـ منه وهو حسن.
[باب هل كانوا يدونون في صدر الإسلام شيئا أو جمع للصحابة شيء في أبواب العلم أو نسب للصحابة واتباعهم التدوين والتصنيف؟]
قال الهروي في ذم الكلام: لم تكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث، إنما كانوا يدونونها حفظا ويأخدونها لفظا إلا كتاب الصدقات والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الإستقصاء اهـ بنقل صاحب الحطة ص ٢٧.
وقال الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات: الصحابة كانت همتهم مصروفة إلى الجهاد، وإلى مجاهدة النفوس والعبادة، فلم يتفرغوا للتصنيف، وكذلك التابعون لم يصنفوا اهـ منه.
وقال الإمام أبو علي اليوسي في قانونه: لما تكلم على أصول طرق نشر العلم، وأنها مأثورة قديمة قال: وأما التأليف فأصله ما كان صلى الله عليه وسلم يفعله من كتب الوحي إذا نزل، وكتب الرسائل إلى الملوك وغيرهم، وكتاب الصدقات وقد جمع فيه مسائل، فهو علم مدون.
وذلك هو التأليف. ولئن كان صلى الله عليه وسلم لا يكتب بيده لما أغناه الله عن ذلك، لقد كان يأمر بالكتب. والمقصود: إنما هو وضع العلم وتدوينه وتخليده، سواء كتب العالم بيده أم لا وكم من عالم يملي ولا يكتب، ويكون ذلك تأليفا اهـ منه، وهو جيد.
وفي سمط الجوهر الفاخر: كتب صلى الله عليه وسلم بيده كتبا لأهل الإسلام في الشرائع والأحكام، منها كتابه صلى الله عليه وسلم في الصدقات، كان عند أبي بكر، وكتابه صلى الله عليه وسلم في نصاب الزكاة وغيرها الذي كان عند عمر، وكتابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن في أنواع من الفقه وأبواب مختلفة، هو كتاب جليل واحتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات اهـ.