وقال في المدونة: القضاء في المسجد من الأمر القديم، وفي الحق والصواب. قال مالك: لأنه يرضى فيه بالدون من المجلس. وهو أقرب على الناس في شهودهم، ويصل إليه الضعيف والمرأة نقله ابن فرحون في تبصرته، وفيها أيضا عن ابن حبيب: أحب إليّ أن يجلس في رحاب المسجد اللاصقة به، من غير تضييق بالجلوس في غيرها، وما كان من مضى يجلسون إلا في رحاب المسجد، خارجا عنه. أما عند مواضع الجنائز يريد بالمدينة المنورة؛ وهو الآن الموضع المعروف بمصلى الجنائز خارج باب جبريل، وإما في رحبة دار مروان، وهي التي تسمى رحبه القضاء. وقد جعل ذلك في هذا الوقت ميضأة، وهي على باب السلام.
قال ابن أبي زيد: واحتج بعض أصحابنا في قضاة المسجد بقوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص: ٢١] . فدل على أن حكم الحكومة وقعت عنده في مسجده.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المسجد، وفيها أيضا عن تنبيه الحكام لابن المناصف:
يكره للقاضي الجلوس في داره، وقد أنكره عمر بن الخطاب على أبي موسى الأشعري، وأمر بإضرام داره عليه نارا، فدعا واستقال ولم يعد إلى ذلك اهـ.
وفي تاريخ ابن عساكر عن أبي صالح مولى العباس قال: أرسلني العباس إلى عثمان أدعوه فأتيته في دار القضاء، قال بعضهم: إذا صح هذا يكون عثمان هو أول من اتخذ في الإسلام دار القضاء اهـ.
وفي جامع التحصيل لابن رشد: المساجد إنما وضعت لذكر الله، قال الله فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: ٣٦] فوجب أن ترفع وتنزه ولا تتخذ لغير ما وضعت له، وقد اتخذ عمر بن الخطاب رحبة بناحية المسجد تسمى البطحاء، فقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوتا فليخرج إلى هذه الرحبة.
[باب في الشهادة وكتابة الشروط]
«أمر الله تعالى بالكتاب والإشهاد في بيوع الآجال فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. ثم قال: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ؛ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة: ٢٨٢] وكذلك أمر سبحانه بالإشهاد في الطلاق والرجعة وعلى الزنى» .
ومع ذلك قال اللسان ابن الخطيب في رسالته «مثلى الطريقة في ذم الوثيقة» : أن الصحابة لم ينقل عنهم أن شاهدا اتخذ حانوتا وطلب على الشهادة أجرا، إنما كان الناس يشهدون بينهم، ويستوثقون بخيارهم وفضلائهم. وفي قوله عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ