لهم الدليل علي ذلك من حكايته سبحانه عن تهنئة أهل الجنة لمن يأكل فيها من الداخلين:
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة: ٢٤] . وقد رأيت في رحلة عالم المغرب الأوسط الشيخ أبي راس المعسكري، أنه لما دخل إلى فاس حضر وليمة بها، فشرب بعض الطلبة بمحضره. قال: فبادرته بلفظ: صحة فضحك مني من حضر، حتى قرعت سن الندم. ثم قلت: ما سندكم في الترك؟ فقالوا: تلك عادتنا. فقلت: تستدلون بنقل على ذلك؟ فقالوا بأجمعهم: وأي نقل في هذا؟ فقلت: إن شهاب الدين الخفاجي نصّ على السنة، وصاحب المدخل على عكسه. وكان الشيخ الطيب بن كيران متكئا. ولما سمع النقل استوى كاستواء المأمون لما لحنه النضر بن شميل وقال: أيوجد النقل على ذلك والإختلاف على ما هنالك؟ فقلت: نعم وأحلتهم على كلام الشهاب والمدخل، قال فاعترفوا بفضلي وبصحة نقلي اهـ كلامه ملخصا.
وقد علمت مما سبق أن الزرقاني من محدثي المالكية صرّح باستحباب التهنئة، وتصريح شيخه النور الشبراملسي الشافعي بالإستحباب، فتأيد تصريح الشهاب الخفاجي مع العمل المتوارث بالمشرق وغيره اليوم.
وفي شرح منظومة الآداب للمحدث السفاريني الحنبلي؛ ذكرهم أي فقهاء الحنابلة أن الحامد أي بعد الأكل يدعى له: يدل على أنه يدعى للآكل والشارب بما يناسب الحال.
والقول بالإستحباب مطلقا هو مقتضى كلام ابن الجوزي. اهـ انظر بقيته في ص ١٣٤ من الجزء الثاني وهو ملخص من كلام مطوّل في المسألة للإمام بن مفلح في كتابه: الآداب الكبرى انظرها ولا بد. والله أعلم.
ثم بعد هذا بمدة، وقفت على كلام في الباب للشهاب بن حجر الهيثمي في فتاويه الفقهية؛ لا أجمع منه ولا أجود، وهذا سياقه رحمه الله: سئل عما اعتيد من قول الإنسان لمن يفرغ من شربه: صحة ونحو ذلك، هل له أصل أو هو بدعة؟ فأجاب بقوله: يمكن أن يقال إن له أصلا ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم لأم أيمن لما شربت بوله صلى الله عليه وسلم: صحة يا أم أيمن لن يلج النار بطنك، ووجه القياس أن المختار عند كثير من أئمتنا طهارة فضلاته عليه السلام، وأن بوله شفاء أي شفاء. فإذا قال ذلك لشاربته، فلا بدع أن يقاس عليه قول مثله لشارب الماء، لا يقال لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم قول ذلك في غير هذه الواقعة لأنا نقول: لا يشترط في الإقتداء به صلى الله عليه وسلم فيما يفعله على جهة التشريع تكرّر ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم؛ بل يكفي صدور ذلك منه كذلك ولو مرة، كما هو واضح، على أن عدم النقل في غير هذه الواقعة لا يدل على عدم الوجود. وليس هذا مما تتوفر الدواعي على نقله، وبقولنا: إن بوله صلى الله عليه وسلم شفاء اندفع ما قيل هذا لا حجة فيه، لأنه لم يكن ثم ما يشرب، وإنما هو البول، وهو إذا شرب عاد بالضرر.
فقال: صحة لينفي عنها ما تتوقعه مما جرت به العادة من بول غيره عليه السلام، فتضمن ذلك دعاء وإخبارا بخلاف شرب الماء اهـ فقوله: لينفي عنها ما تتوقعه، يردّ بأنه تقرر عند