أعظمهم عليه أحوجهم إليه، ثم في حجة الوداع لم يبق أحد من قريش إلا أسلم وصاروا كلهم أتباعه.
وقسم تركوه وانتظروا ما يؤول إليه أمره كطوائف العرب، منهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة، وبالعكس كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا، ومنهم المنافقون فكانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، ثم النضير ثم قريظة، فحاربهم المصطفى بعد وقعة بدر بشهر.
وقال الحافظ ابن تيمية في كتابه: الصارم المسلول على شاتم الرسول ص ٩٨: لا خلاف بين أهل السير أن جميع قبائل الأوس والخزرج لم يكن فيهم من يقاتل المصطفى بيد ولا لسان، ولا كان أحد بالمدينة يتمكن من إظهار ذلك، وإنما غاية الكافر أو المنافق منهم أن يثبط الناس عن اتباعه، أو يعين على رجوعه من المدينة إلى مكة ونحو ذلك مما فيه تخذيل عنه وحض على الكفر به، لا على قتاله.
ومن المعلوم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، الظاهر علمه عند كل من له علم بالسيرة، أنه عليه السلام لما قدم المدينة لم يحارب أحدا من أهل المدينة، بل وادعهم حتى اليهود خصوصا بطون الأوس والخزرج، فإنه كان يسالمهم ويتألفهم بكل وجه، وكان الناس إذ قدمها على طبقات: منهم المؤمن وهم الأكثرون ومنهم الباقي على دينه، وهو متروك لا يحارب ولا يحارب، وهو والمؤمنون من قبيلته وحلفائهم أهل سلم لا أهل حرب، حتى حلفاء الأنصار أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على حلفهم.
قال موسى بن عقبة: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فيها دار من دور الأنصار، إلا فيها رهط من المسلمين، إلا بني خطمة، وبني واقف، وبني وائل، كانوا آخر الأنصار إسلاما. وحول المدينة حلفاء للأنصار كانوا يتظاهرون بهم في حربهم، فأمر المصطفى أن يخلوا حلف حلفائهم، للحرب التي كانت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين من عادوا الإسلام، وكان صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط فيهم المسلمون، الذين تجمعهم دعوة الإسلام، وفيهم أهل الحلقة والحصون، وفيهم حلفاء للحيين جميعا الأوس والخزرج، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم وموادعتهم.
كان الرجل يكون مسلما وأبوه مشركا. ومن المعلوم أن قبائل الأوس كانوا حلفاء بعضهم لبعض، وكان فيهم المظهر للإسلام المبطن لخلافه، وكان الإسلام يفشو في بطون الأنصار بطنا بعد بطن، حتى لم يبق فيهم مظهر الكفر، بل صاروا إما مؤمنين أو منافقين.
وكان من لم يسلم منهم بمنزلة اليهود موادع لهذين، أو هم أحسن حالا من اليهود، لما يعرف فيه من العصبية لقومه، وأن يهوى هواهم ولا يرى أن يخرج عن جماعتهم، وكان صلى الله عليه وسلم يعاملهم بالكف عنهم، واحتمال أذاهم بأكثر مما يعامل به اليهود، لما كان يرجو منهم، ويخاف من تغير قلوب من أظهر الإسلام من قبائلهم لو أوقع بهم، وهو في ذلك متبع قوله تعالى: