وعمان) فقال: انزوه يعني صبوه في المسجد، وكان أكثر مال أتي به صلى الله عليه وسلم من الدراهم، أو من الخارج فلا ينافي أنه غنم في خيبر ما هو أكثر منه، وقسمه وخرج إلى المسجد ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء إليه فجلس فما كان يرى أحدا إلا أعطاه إذ جاء العباس فقال: يا رسول الله أعطني فإني فديت نفسي وفديت عقيلا فقال له: خذ فحثى في ثوبه فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه علي، قال: لا. قال: فارفعه أنت علي فقال: لا فنثر العباس منه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه علي قال. قال: فارفعه أنت علي قال لا فنثر منه ثم احتمله فالقاه على كاهله. قال ابن كثير: كان العباس شديدا طويلا نبيلا فاحتمل ما يقارب أربعين ألفا، فانطلق فما زال صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفي عليه عجبا من حرصه فما قام صلى الله عليه وسلم وثمّ منها درهم.
وفي رواية ابن أبي شبية: كان مائة ألف درهم، وأنه أرسله له العلاء بن الحضرمي من خراج البحرين، قال: وهو أول مال حمل له صلى الله عليه وسلم، وكان يبذل المال مرة للفقير، أو المحتاج. ومرة ينفقه في سبيل الله، وتارة يتألف به، فيعطي عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيشة الفقراء. وربما ربط الحجر على بطنه، فلا تنافي بين أحواله من السعة والضيق، وبين ما ذكر أولا وأخيرا.
قال الطبري كما في الفتح: إن ذلك كان في حالة دون حالة لا لعذر وضيق، قال الحليمي كما في شعب الإيمان، من تعظيمه عليه السلام أن لا يوصف بما هو عند الناس من أوصاف الضعة فلا يقال كان فقيرا، وأنكر بعضهم إطلاق الزهد عليه. وقد ذكر القاضي عياض في الشفا، وعنه التقي السبكي: أن فقهاء الأندلس أفتوا بقتل صالح الطليطلي وصلبه، لتسميته النبي صلى الله عليه وسلم يتيما، وزعمه أن زهده لم يكن قصدا، ولو قدر على الطيبات أكلها اهـ.
وذكر الشيخ بدر الدين الزركشي عن الشيخ تقي الدين السبكي، وحكاه عنه أيضا وله في التوشيح أنه كان يقول: لم يكن صلى الله عليه وسلم فقيرا من المال قط، ولا حاله حال فقير، بل كان أغنى الناس فقد كفي أمر دنياه في نفسه وعياله، وكان يقول في قوله. عليه السلام: اللهم أحيني مسكينا أن المراد به استكانة القلب، لا المسكنة التي هي أن لا يجد ما يقع موقعا من كفايته، وكان يشدد النكير على من يعتقد خلاف ذلك اهـ.
ولما نقله القسطلاني في المواهب قال الزرقاني في شرحها: وهو حسن نفيس. وأما اللفظ الشائع وهو: الفقر فخري وبه أفتخر. فقال الحافظ ابن تيمية والعراقي وابن حجر باطل موضوع اهـ.
قال بعض العصريين: وعلى فرض وجود أصل له فمعناه الافتخار بالفقر وإيثاره على الغنى حالة نشأ الإسلام وتكوينه، فإن عقب الهجرة النبوية لم يكن في الإمكان تربية وإنشاء الثروة إذا ذاك، ولا ريب أن الفقر في سبيل الله غاية وفي سبيل الدولة والدين والوطن مزية