قلت: هذا يدلك على مقدار ما كانوا يستهلكون من المصاريف، ونفقات عيالهم.
وفي طبقات ابن سعد: عن سفيان بن الربيع قال: انطلقت في رهط في نسّاك أهل البصرة إلى مكة فقلت: لو نظرت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدللنا على عبد الله بن عمرو بن العاص، فأتينا منزله، فإذا قريب من ثلاثمائة راحلة، فقلت: على كل هؤلاء حج عبد الله بن عمرو؟ قالوا: نعم هو ومواليه وأحباؤه الخ أنظر ص ٢ ج ٤.
ومن أغنيائهم سيدنا أنس، خادم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج ابن سعد في الطبقات: كان أنس بن مالك من أحرص أصحاب محمد على المال، وقال ابن حجر الهيثمي في شرح الهمزية، على قول البوصيري في الصحابة:
أغنياء نزاهة فقراء ... علماء أيمة أمراء
من كان بيده منهم فال كابن عوف وعثمان، فإنما كان خازنا لله يصرفه في مصارفه الشرعية، فهو مقتنيه لذلك لا لفخر، ولا لمحبة جمع الحطام الفاني، ولذلك جاء أن عبد الرحمن بن عوف أعتق ثلاثين ألف رقيق، وتصدق هو وعثمان في غزوة تبوك بما يبهر العقل، وكان للزبير ألف مملوك يؤدون له الخراج، وما مات إلا وعليه قدر كثير جدا من الديون، وكون المخلف عن ابن عوف في ربع ثمنه ثمانون ألف دينار، لا ينافي ما تقرر أنه إنما كان خازنا لله، فإنه ليس معناه يخرج جميع ما بيده دفعة واحدة، بل يبقيه ويخرج منه ما هو المطلوب منه في كل حال، أو زمان. وأما إخراجه صلى الله عليه وسلم لجميع ما كان بيده دفعة فهو إما لاحتياجه لذلك، لسدّ ضروريات أصحابه أو لأن حاله في الأمور الخارقة للعادة، لا يقدر غيره على التأسي به فيها، فلا يكلف بذلك اهـ ونحوه لأبي عبد الله زنيبر السلاوي، والشريف السجلماسي، وأبي عبد الله الحضيكي السوسي، ثلاثتهم في شرحها أيضا وزاد الحضيكي على قوله:
زهدوا في الدنيا فما عرف الميل ... إليها منهم ولا الرغباء
لا ينافي زهدهم فيها كونهم أغنياء كما تقدم، وحصولها بأيدي بعضهم بدعائه صلى الله عليه وسلم لأنس، وابن عوف، وثناؤه عليه السلام على المال بقوله: نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح، لأنهم خزان الله الخ. وانظر تحفة الأكابر على أثر عبد الرحمن بن عوف: يدخل الجنة حبوا.
وسأل السلطان الملك الأشرف حافظ عصره الشمس السخاويّ عن حديث: اللهم من أحبني فارزقه الكفاف، ومن أبغضني فأكثر ماله وولده، هل هو صحيح؟ وما الجمع بينه وبين دعائه عليه السلام؛ لأنس بكثرة المال والولد، فأجابه بجواب نفيس جدا في نحو كراسين مضمونه؛ أن الحديث المذكور وارد من طرق ودعاؤه لأنس أصح منه، ومحملها أن المال الذي دعا به عليه السلام لأنس هو المطلوب من حله والمأخوذ من وجهه، أنظر الجواب المذكور فإنه مفيد.