قلت: هذه القصة من عظيم ما جاء عن ذلك التاريخ، مما يدل على التوسع والرفاهية، ولذيذ المطعم، وفيه قوة عمارة المدينة، وأنها كانت تحمل أن يذبح فيها مثل ذلك العدد من ذوات الكبد، ولا يعد ذلك تضييعا للمال، وما كان الصحابة يأتون من الأعمال الحامل عليها منهم التقرب إليه عليه السلام بكل غال ورخيص، وقال ابن المسيب كما في الاصابة: عن سعد كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل العباس فقال: هذا أجود قريش كفا، وأخرج أبو نعيم عن المسوّرين مخرمة قال: باع عبد الرحمن بن عوف أرضا له من عثمان بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك المال في بني زهرة، وفقراء المسلمين، وأمهات المؤمنين.
وبعث معي إلى عائشة بمال من ذلك المال، فقالت له عائشة: أما أني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لن يحنو عليكن بعدي إلا الصالحون، سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.
فهذا يدل على ارتفاع الأرضين في زمن الخلفاء الراشدين، فإن البلدة التي يكون ثمنها الآن نحو الثمانين ألف ريال بلدة عظيمة، فكيف بها هناك في ذلك الزمن، ويدل على عظيم بذل الصحابة وبرّهم وهبتهم، فبخ بخ لتلك الهمم القعساء، والخلل الشماء.
وأخرج الإمام أحمد «١» وأبو نعيم قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت صوتا رجت منه المدينة فقالت؛ ما هذا فقالوا عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف، من الشام، وكانت سبعمائة بعير فقالت عائشة: أما أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الحنة حبوا، فبلغ ذلك ابن عوف، فأتاها فسألها عما بلغه، فحدثته فقال: إني أشهدك أنها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله، وأخرج أبو نعيم وابن عساكر، عن الزهري قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألفا، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة، ولما ذكر ابن حجر الهيثمي في شرح الهمزية، أن الزبير كان له ألف عبد يؤدون له الخراج، كتب عليه الشمس الحفني في حواشيه أي: في كل يوم فيتصدق في مجلسه به ولا يقوم بدرهم اهـ.
وأخرج الروياني وابن عساكر، عن حبيب ابن أبي ثابت، أن أبا أيوب أتى معاوية فشكا له أن عليه دينا، فلم ير فيه ما يحبه ورأى ما يكرهه، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم سترون بعدي أثرة قال: فأي شيء قال لكم؟ قال: اصبروا. قال: فاصبروا.
قال: فو الله لا أسألك شيئا أبدا، فقدم البصرة فنزل على ابن عباس، ففرغ له بيته وقال:
لأصنعن لك كما صنعت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر أهله فخرجوا، وقال له: لك ما في البيت كله، وأعطاه أربعين ألفا وعشرين مملوكا: انظر فضائل أبي أيوب من كنز العمال. وترجم