للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ جُمُعَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ، {لَا تُلْهِيهِمْ} [النور: ٣٧] لا تشغلهم، {تِجَارَةٌ} [النور: ٣٧] قِيلَ: خَصَّ التِّجَارَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ الصَّلَاةِ وَالطَّاعَاتِ، وَأَرَادَ بِالتِّجَارَةِ الشِّرَاءَ وَإِنْ كَانَ اسْمُ التِّجَارَةِ يَقَعُ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْبَيْعَ بَعْدَ هَذَا، كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} [الْجُمُعَةِ: ١١] يَعْنِي الشِّرَاءَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ - التِّجَارَةُ لِأَهْلِ الْجَلْبِ وَالْبَيْعِ مَا بَاعَهُ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ. قَوْلُهُ: {وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النُّورِ: ٣٧] عَنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، {وَإِقَامِ} [النور: ٣٧] أي: لإقامة، {الصَّلَاةِ} [النور: ٣٧] حَذَفَ الْهَاءَ وَأَرَادَ أَدَاءَهَا فِي وَقْتِهَا لِأَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا لَا يَكُونُ مِنْ مُقِيمِي الصَّلَاةِ وَأَعَادَ ذِكْرَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ حِفْظَ الْمَوَاقِيتِ. رَوَى سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي السُّوقِ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَقَامَ النَّاسُ وَأَغْلَقُوا حَوَانِيتَهُمْ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِيهِمْ نَزَلَتْ: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ) {وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: ٣٧] الْمَفْرُوضَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا حَضَرَ وَقْتُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ لَمْ يَحْبِسُوهَا. وَقِيلَ: هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ. {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: ٣٧] قِيلَ: تَتَقَلَّبُ الْقُلُوبُ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ والكفر، وتنفتح أبصار مِنَ الْأَغْطِيَةِ. وَقِيلَ: تَتَقَلَّبُ الْقُلُوبُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ تَخْشَى الْهَلَاكَ وَتَطْمَعُ فِي النَّجَاةِ، وَتَقَلُّبُ الْأَبْصَارِ مِنْ هَوْلِهِ أَيْ: نَاحِيَةَ يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ أَمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، وَمِنْ أَيْنَ يُؤْتُونَ الْكُتُبَ أم مِنْ قِبَلِ الْأَيْمَانِ أَمْ مِنْ قِبَلِ الشَّمَائِلِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وقيل: فتقلب الْقُلُوبُ فِي الْجَوْفِ فَتَرْتَفِعُ إِلَى الحنجرة فلا تزل وَلَا تَخْرُجُ، وَتَقَلُّبُ الْبَصَرِ شُخُوصُهُ مِنْ هَوْلِ الْأَمْرِ وَشِدَّتِهِ.

[٣٨] {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور: ٣٨] يُرِيدُ أَنَّهُمُ اشْتَغَلُوا بِذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسُنَ مَا عَمِلُوا، أَيْ بِأَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، يُرِيدُ يَجْزِيهِمْ بحسناتهم، وما كان من مساوي أَعْمَالِهِمْ لَا يَجْزِيهِمْ بِهَا، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: ٣٨] مَا لَمْ يَسْتَحِقُّوهُ بِأَعْمَالِهِمْ، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: ٣٨] ثُمَّ ضَرَبَ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ مَثَلًا.

[٣٩] فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: ٣٩] السَّرَابُ الشُّعَاعُ الَّذِي يُرَى نِصْفَ النَّهَارِ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي الْبَرَارِيِّ، يُشْبِهُ الْمَاءَ الْجَارِيَ عَلَى الْأَرْضِ يَظُنُّهُ مَنْ رَآهُ مَاءً، فَإِذَا قَرُبَ مِنْهُ انْفَشَّ فَلَمْ ير شيئا، والقيعة: جَمْعُ الْقَاعِ وَهُوَ الْمُنْبَسِطُ الْوَاسِعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِيهِ يَكُونُ السَّرَابُ، {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ} [النور: ٣٩] أَيْ يَتَوَهَّمُهُ الْعَطْشَانُ، {مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} [النور: ٣٩] أَيْ: جَاءَ مَا قَدْ رَأَى أَنَّهُ مَاءٌ. وَقِيلَ: جَاءَ مَوْضِعَ السراب، {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: ٣٩] عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَحَسِبَهُ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ يَحْسَبُ أَنَّ عَمَلَهُ نَافِعُهُ فَإِذَا أَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ وَاحْتَاجَ إِلَى عَمَلِهِ لَمْ يَجِدْ عَمَلَهُ أَغْنَى مِنْهُ شَيْئًا وَلَا نَفَعَهُ. {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور: ٣٩] أَيْ عِنْدَ عَمَلِهِ، أَيْ وَجَدَ اللَّهَ بِالْمِرْصَادِ. وَقِيلَ: قَدِمَ عَلَى الله، {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: ٣٩] أَيْ جَزَاءَ عَمَلِهِ، {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: ٣٩]

[٤٠] {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} [النور: ٤٠] وَهَذَا مَثَلٌ آخَرُ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ، يَقُولُ مَثَلُ أَعْمَالِهِمْ مِنْ فَسَادِهَا وَجَهَالَتِهِمْ فِيهَا كَظُلُمَاتٍ، {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور: ٤٠] وَهُوَ الْعَمِيقُ الْكَثِيرُ الْمَاءِ، وَلُجَّةُ البحر: معظمه، {يَغْشَاهُ} [النور: ٤٠] يَعْلُوهُ، {مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} [النور: ٤٠] متراكم، {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور: ٤٠] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِرِوَايَةِ الْقَوَّاسِ (سَحَابٌ) بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، ظُلُمَاتٌ، بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ) . وَرَوَى أَبُو الْحَسَنِ الْبُرِّيُّ عَنْهُ: (سَحَابُ ظُلُمَاتٍ) بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ) كِلَاهُمَا بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ، فَيَكُونُ تَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ (سَحَابٌ) ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: (ظلمات) ، {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور: ٤٠]

<<  <  ج: ص:  >  >>