حتى أنزل الله توبتهم حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقًا، فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير والتعزير يكون لمن أظهر ترك واجبات، وفعل المحرمات، كتارك الصلاة والزكاة، والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسُّنة، وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع.
وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم، ولا يصلي خلفهم ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون، فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا؛ ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم؛ فإنه ليس شرًا من المنافقين الذين كان - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم وبكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم؛ ولهذا جاء في الحديث:«إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها؛ ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة»، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»، فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها بخلاف الباطنة؛ فإن عقوبتها على صاحبها خاصة.
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به زحر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله؛ فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفته، كان مشروعًا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر.