للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحواسِّ مِن آياتِ الأنبياء عليهم السَّلام، وفيما سِواها لا تثبُت بأقلِّ مِن عشرين نفسًا، فيهم واحدٌ مِن أهلِ الجنَّة أو أكثر»! (١)

ومِن شَواهدِ هذا الانحرافِ الاعتزليِّ عن الأحاديثِ:

ما قرَّره عبد الجبَّار الهَمداني (ت ٤١٥ هـ) (٢) في قولِه: «ما سبيلُه مِن الأخبار، فإنَّه يجب أن يُنظَر فيه: فإنْ كان ممَّا طريقه العمل، عُمِل به إذا أورِد بشَرائِطه، وإن كان ممَّا طريقُه الاعتقادات، يُنظر: فإنْ كان مُوافقًا لحُجَجِ العقولِ، قُبِل واعتُقِد مُوجبُه، لا لمكانِه، بل للحُجَّة العقليَّة، وإنْ لم يكن مُوافقًا لها، فإنَّ الواجب أن يُرَدَّ، ويُحكَم بأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يَقُله، وإنْ قالَه، فإنَّما قاله على طريقِ الحكايةِ عن غيره! هذا إنْ لم يحتمِل التَّأويلَ إلَاّ بتعسُّف، فأمَّا إذا احتمَله، فالواجب أن يُتأوَّل» (٣).

أمَّا إبراهيم النَّظَّامِ؛ فقد بَلَغ به الغلوُّ مَداه حينَ بوَّأ العقلَ رُتبةَ الدَّليل النَّقليِّ، فكان يقول: «إنَّ جِهةَ حُجَّة العَقْلِ، قد تنسخُ الأخبار»! وهذا نَسَبه له ابن قُتيبة (٤).

فهذا التَّقديم للعقلِ على دلائل النَّقل -وإن لم تَدَّعِ المعتزلةُ بأنَّه تقديمُ رتبةٍ وتفضيلٍ- إلَاّ أنَّ تَصرُّفاتِهم في بابِ العقائدِ والأحكامِ برهانٌ عمليٌّ على جعلِهم العقلَ حاكِمًا على النُّصوصِ، يظهر ذلك فيما يتناولونَه مِن الدَّلائل السَّمعيَّة.

فأمَّا الدَّلائل القُرآنيَّةُ: فلِكَوْنها قطعيَّةَ الثُّبوتِ، لم يَستطيعوا رَدَّها، بل اكتفوا بتطريقِ الاحتمالاتِ على دَلالاتِها، ليُنْفَى عنها إفادة اليَقين.


(١) «الفرق بين الفِرق» للبغدادي (ص/١٠٩)
(٢) عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسد آبادي، أبو الحسين: شيخ المعتزلة في عصره، وهم يلقبونه قاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره، ولي القضاء بالريِّ، ومات فيها، من تصانيفه: «شرح الأصول الخمسة»، و «المغني في التوحيد والعدل»، انظر «الأعلام» (٣/ ٢٧٣).
(٣) «شرح الأصول الخمسة» للقاضي عبد الجبار (ص/٧٧٠).
(٤) في «تأويل مختلف الحديث» لابن قُتيبة (ص/٩٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>