للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمَّا أخبارُ الآحاد: فهي المَرتَع الخصبُ لظهورِ الطُّغيان الاعتزاليِّ، فيَردُّون السُّنَن بحُجَّةِ ظنيَّةِ ثبوتِها، فضلًا عن دلالتِها، وهذه كُتُبهم تَرشحُ بنَفَسِ التَّعطيلِ لمَدلولات تلك الأخبار، والتَّأبِّي عن قَبولها (١)؛ ناطقةٌ بعدمِ اعتبارِ الحديثِ حين يخُالفُ مَعقولاتِهم، وهذا برهانٌ آخر على أوَّليَّة العقلِ عند قيامِ التّعارض.

بَيْدَ أنَّ ما تقَدَّم مِن تَباعُدِهم عن الاحتجاجِ بالآحادِ، لا يعني لِزامًا أنَّهم لا يَرفعون رأسًا بالحديثِ مُطلقًا، فإنَّهم -مهما قُلنا عن غُلوِّهم في العقليَّاتِ- مُعَظِّمون لكلامِ نَبيِّهم صلى الله عليه وسلم إذا اطمأنُّوا لصدورِه.

فهذا أبو سَعدٍ السَّمان (ت ٤٤٧ هـ) (٢) -أحَدُ مُشتغليهم بروايةِ الحديث، وقليلٌ ما هم- كان يقول: «مَن لم يَكتُب الحديثَ، لم يَتَغَرْغَر بحَلاوةِ الإسلام» (٣).

وانظر قبله إلى أديبِهم الجاحظ (ت ٢٥٥ هـ)، وهو يَدعو بكلِّ ثقةٍ خُصماءَه مِن مُتشيِّعة زمانِه إلى التَّحاكم في حُجِّية الأخبارِ إلى أهل الحديث، ويقول في مُناظرتِهم: « .. مَتى ادَّعينا ضعفَ حديثٍ وفسادَه، فاتَّهمتم رأيَنا، وخِفتم مَيْلَنا أو غَلَطنا، فاعترضوا حُمَّالَ الحديث وأصحابَ الأثر، فإنَّ عندهم الشِّفاء فيما تنازعنا فيه، والعلمَ بما التبَسَ علينا منه؛ ولقد أنصَف كلَّ الإنصاف مَن دعاكم إلى المَقنَعِ، مع قُربِ دارِه، وقلِّة جَوْرِه، وأصحاب الأثر مِن شأنهم روايةُ كلِّ ما صحَّ عندهم، عليهم كان أو لهم» (٤).

إنَّما أهْوَى بكثيرٍ من المُعتزلةِ في مَهاوي الرَّدى، اشتراطُهم للاحتجاجِ بالحديثِ شروطًا لا دليلَ عليها مِن كِتابٍ أو سُنَّة أو عَملِ سَالِفٍ، كاشتراطِهم التَّواترَ في بابِ العقائد، ورَدِّ الآحاد منها (٥)، واشتراطِ مُتأخِّريهم للعَددِ في الرِّواية


(١) «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/٣٠).
(٢) إسماعيل بن علي بن الحسين بن زنجويه الرازيّ، أبو سعد السَّمان: حافظ مُتقن معتزليٌّ، كان شيخ المعتزلة وعالمهم ومُحدِّثهم في عصره، قيل: بَلَغت شيوخه ثلاثة آلاف وستمائة، مِن كُتبه «الموافقة بين أهل البيت والصَّحابة» في الحديث، و «سفينة النجاة» في الإمامة، انظر «أعلام النُّبلاء» (١٨/ ٥٥).
(٣) «سير أعلام النبلاء» (١٨/ ٥٧).
(٤) «العُثمانيَّة» للجاحظ (ص/١٥١ - ١٥٢).
(٥) انظر «المُعتمد» لأبي الحسين البصري (٢/ ١٠٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>