للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنَّ منشأ الخطأ عند هؤلاء راجعٌ في حقيقتِه إلى إغفال أمرين مهِمَّين:

الأمر الأول: النَّظر في حقيقةِ دعوى الدَّجال التي يدَّعيها لنفسِه:

فإنَّ دعوى الدَّجَّال الَّتي تصحبُها تلك الخوارق هي دَعوى الرُّبوبية، لا النُّبوَّة والرِّسالة! وعلى هذا، فاقترانُ هذه الخوارق بدعواه، ومُضاهاتها لآياتِ الأنبياءِ ليست مَثار إشكال؛ لكونِه لم يَدَّع الرِّسالة أصلًا حتَّى يُقال: إنَّ هذه الخوارق مُعجزات وآيات قامت مَقام تصديقِ الله تعالى له.

الأمر الثَّاني: النَّظر في ما اقترنَ بالدَّجالِ مِن أحوال وصفات، تُبرهن على حقيقةِ أمرِه، وتكشِف عن زَيْفِ دَعواه:

وهو أنَّ الدَّجال مَوسوم بصفاتٍ وعلاماتٍ تقوم مَقام تكذيبِه فيما يدَّعيه؛ سواء مِن أمرِ الرُّبوبية أو الألوهيَّة، وهذه الأمور المُقترِنة معه تُبطِل أثرَ تلك الخوارق، وتَزيدُ اليقينَ عند المؤمنين بكذبه؛ وإلَاّ لمَا كان للنبَّي صلى الله عليه وسلم فَضلٌ ومَزيَّة على غيره مِن الرُّسل في الإبانةِ عن أمر الدَّجال، ولا في قولِه لهم: «ألا أحدِّثكم حديثًا عن الدَّجال ما حدَّث به نبيٌّ قومَه؟ .. » الحديث (١)، ولَمَا كان في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنْ يخرجْ وأنا فيكم، فأنا حجيجُه دونكم، وإنْ يخرج ولستُ فيكم فأمرُؤٌ حجيجُ نفسه» فائدةٌ تُذكر.

فإنَّ المقصودَ من قولِه صلى الله عليه وسلم: « .. فامرؤٌ حَجيجُ نفسه» أنَّ الدَّجال إنْ خرجَ ولستُ فيكم «فليحتجَّ كلُّ امرئٍ عن نفسِه بما أعلمتُه مِن صِفته، وبما يدلُّ عليه العقلُ مِن كذبه في دعوى الإلهيَّة؛ وهو خَبرٌ بمعنى الأمر، مع ما فيه مِن التَّنبيه على النَّظر عند المُشكلات، والتَّمسُّك بالأدلَّة الواضحات» (٢).

والمؤمن ببصيرتِه يُسدِّده الله تعالى، فينكشِف له في أَزمانِ الفِتنِ ما لا ينكشفُ لغيره، ويَتبيَّن له صدق الصَّادق، وافتراء المفتري، والدَّجال أكذب الخلق، وكَذبه ظاهر، لا يُنفَق على أهلِ اليقين.


(١) أخرجه البخاري في (ك: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، رقم: ٣٣٣٨)، ومسلم في (ك: الفتن وأشراط السَّاعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه، رقم: ٢٩٣٦).
(٢) «المفهم» للقرطبي (٧/ ٢٧٦ - ٢٧٧) بتصرف يسير.

<<  <  ج: ص:  >  >>