للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّظر، خصوصًا مع شهادة الرِّوايات بعضها لبعض وتعاضدها في نسبةِ شدَّة الحرِّ والبرد إلى جهنَّم نفسِها؛ وسيأتي بسط القرائن المرجِّحة لهذا القول حين التَّعرُّض للقضية الثَّانية التَّالية.

وأمَّا القضيَّة الثَّانية: في بيان معنى إذن الرَّب تعالى لها بنَفَسين.

وهذه القضيَّة قد انسحب عليها خلاف أهل العلم -تَبعًا للقضيَّة الأولى- على قولين:

القول الأوَّل: حَمل اللَّفظ على حقيقته، وأنَّ النَّفَسَ المضاف إليها هو تنفُّس حقيقيٌّ يناسب خِلْقتها: والقائلون بهذا القول قد تقدَّم الإشارة إليهم، وسيأتي النَّقل عن بعضهم.

القول الثَّاني: أَنَّ تنفُّس النَّار -وكذا شكواها (١)

- مجاز لا حقيقة؛ فنَفَسُها هو كناية عن الحرِّ والبرد في ابتدائِه، وامتِدادِه، وقوَّتِه، وضَعْفِهِ (٢): وممَّن ذهب إلى هذا القول: البَيضاوي (٣)، وابن الجوزي، بل جعَلَ هذه الكنايةَ «مِن أَحسنِ التَّشبيه» (٤).

والَّذي يَظْهر رجحانُه -مِن جهةِ النَّظر- هو القول الأوَّل أيضًا؛ لأنَّ الأصل حمل الكلامِ على الحقيقةِ عندِ انتفاءِ القرائنِ النَّاقلة إلى المجاز؛ خصوصًا أنَّ الحديث خبَرٌ عن أَمر مُغيَّب لا يقع للحسِّ إدراكه ليصحَّ القول إنَّ قرينة المعايَنَة تَصرف الخطابَ مِن الحقيقة إلى المجاز.

فلا مانعَ يمنع مِن إجراءِ الحديثِ على ظاهرِه؛ لصلاحيةِ قُدرة الرَّب لذلك، فضلًا عن قصْر النَّفَسِ على نَفَسَين اثنين فقط: كلُّ ذلك حارسٌ مِن توهمِّ جَرَيان


(١) أي أن الشكوى بلسان حالها لا مقالها، على جهة التوسُّع في الاستعمال، كما قال الشاعر:
شكا إليَّ جملي طول السُّرى *** صَبْرٌ جميل فكلانا مُبتلى

وكقول العرب: قالت السَّماء فهطلت، وانظر: «التمهيد» (١/ ٢٧٣)، و «المفهم» (٢/ ٢٤٤).
(٢) انظر «كشف مشكل الصحيحين» لابن الجوزي (٣/ ٣٧٠).
(٣) كما في كتابه «تحفة الأبرار» (١/ ٢٣٧).
(٤) «كشف مشكل الصحيحين» (٣/ ٣٧٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>