للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومِنْ تلكم الآيات القرآنيَّة الَّتي ألْمحَتْ أيضًا إلى مسألتنا:

قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: ٩٣].

قال ابنُ قَيِّم الجوزيَّةِ فيها: «هذا خطابٌ لهم عند الموت، وقد أَخْبَرت الملائكةُ -وهم الصَّادقون- أنَّهم حينئِذٍ يُجزَون عذابَ الهون، ولو تأخَّر عنهم ذلك إلى انقِضاءِ الدُّنيا لَمَا صحَّ أن يُقالَ لهم: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ}» (١).

هذا ليتَقرَّر أنَّ عذابَ القَبْر ونعيمَه، وإنْ نصَّتْ الأحاديثُ عليها وجَلَّتْها؛ فلا يعني ذلك خُلُوَّ القرآن مِن الإشارة إليها.

فأمَّا جواب ما ادَّعَوه مِن الضَّرورة العقليَّة، بيانُه في التَّالي:

أوَّلًا: قاعدةُ أهل السُّنة والجماعة الَّتي فارقوا بها طوائف المبتدعة والضُّلَّال، والَّتي طَردوها في جميعِ أبواب الدِّين أصولهِ وفروعِهِ: أنَّه لا تقوم قدَمُ الإسلام إلَّا على ظَهْرِ التَّسليم والاستسلام.

فأهل السُّنَّة ومَن تبِعهُم في ذلك، أقَرُّوا بهذه الأخبار النَّبويَّة وصدَّقوها، وأَجْرَوْها على حقائقِها، وآمنوا بأنَّ لله الحكمة البالغة في ذلك، يفعل ما يشاءُ مِن عقابٍ ونعيمٍ، وأنَّ الإيمان بذلك هو من الإيمان بالغيب، الَّذي هو مِن أخصِّ خصائص أهل الإيمان، وهو مدار الابتلاء.

فوجبَ حَمْلُ ما تضافرتْ عليه النُّصوص، ودَلَّت عليه الأخبار من عذاب القَبْر ونعيمه، وحصول السُّؤال للميِّت من المَلَكَيْنِ: وجب حملُ كلِّ ذلك على الحقيقة، إذ ليس هناك ما يُحيلُها؛ لا مِن جِهة الدَّلائل النَّقلية، ولا العقليَّة؛ فعذاب القَبْر ونعيمه ثابتٌ في الأَخْبَارِ، وليس في بدائه العقل ما يدفعه، بل تلك الأخبارُ موافقة لأحكامِه أتمَّ الموافقة.


(١) «الرُّوح» (ص/٧٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>