للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثانيًا: أنَّ دعواهم استحالةَ حصولِ العذاب للمقبور وقد صار مجرَّد جثةٍ هامدةٍ لا روح فيها، أو في حالِ انتقاضِ بِنْيَتِه، مع انتفاءِ الحياة عنه: دعوى باطلة؛ لأنَّ النُّصوص قد أبانتْ أن الرُّوح تُعاد إلى الميِّت إعادةً غير الإعادةِ المألوفةِ في الدُّنيا؛ ليَجرِي للميِّت السُّؤالُ والامتحان وما بعدهما، والدَّليل قد أَبانَ عن ذلك، والعقلُ لا يُحِيلُه، فيلزم التَّصديقُ بما وراء ذلك مِن السُّؤال والخطابِ، والعذاب والنَّعيم للمقبور.

والبراهين على حصولِ هذا النَّوع من الحياة كثيرةٌ:

منها ما جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه المشهور في تشيِيعهم مع نبيِّهم صلى الله عليه وسلم جنازةَ رجل من الأنصارٍ، حيث قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدُّنيا، وإقبال من الآخرة، نَزل إليه ملائكة مِن السَّماء، بيضُ الوجوه ... »، والشَّاهد فيه قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «فتُعادُ روحه في جسده، فيأتيه ملَكَان، فيُجلسانه، فيقولان له: مَن ربُّك؟ ... » الحديث (١).

قال ابن القيِّم معلِّقًا على هذا الحديث: «قد كفانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمْرَ هذه المسألة، وأغنانا عن أقوال النَّاس؛ حيث صرَّح بإعادةِ الرُّوح إليه» (٢).

وقد أورد ابنُ رجب آثارًا كثيرةً عن السَّلف، تشهدُ لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ثمَّ أعقَب ذلك بقوله: « .. فهؤلاء السَّلف كلُّهم صرَّحوا بأنَّ الرُّوح تُعاد إلى البَدن عند السُّؤال، وصرَّح بمثل ذلك طوائفُ من الفقهاء والمتكلِّمين مِن أصحابنا وغيرهم؛ كالقاضي أبي يعلى وغيره، وأنكر ذلك طائفةٌ؛ منهم: ابن حزم وغيره، وذكر أنَّ السُّؤال للرُّوح خاصَّة، وكذلك سماع الخِطاب، وأنكرَ أن تُعاد الرُّوح للجسد في القَبْر للعذاب وغيره.


(١) أخرجه أحمد في «مسنده» (رقم: ١٨٥٣٤)، يقول البيهقي في «إثبات عذاب القبر» (ص/٣٧): «هذا حديث كبير، وصحيح الإسناد، رواه جماعة الأئمة الثقات عن الأعمش»، والحديث حسَّنه ابن تيمية في «الفتاوى» (٤/ ٢٩٠)، وقال ابن القيِّم في «الروح» (ص/٦٥): «الحديث صحيح لا شك فيه، رواه عن البراء جماعة»، وأفاد أن الدارقطني جمع طرقه في جزء مُفرد.
(٢) «الرُّوح» (ص/٤١).

<<  <  ج: ص:  >  >>