للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمَّا استدلال المعترض بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} على انتفاءِ قدرة الميِّت على السَّماعِ لفقدِ آلةِ ذلك:

فمثالٌ منه مندرجٌ فيما يسمِّيه الجَدَليُّون بـ «الاستدلالِ بمحلِّ الشَّاهد»! وليس يصحُّ في باب الاحتجاج؛ ذلك أنَّه قد يُقال: بأنَّ نفيَ السَّماع في الآية هو لاختلافِ أحكامِ الدَّارَيْنِ، وانتفاءِ قناةِ التَّواصل بينهما، إلَّا بنصٍّ شرعيٍّ يثبت ذلك لبعضِ الأعيانِ (١)، وليس لكونِ الميِّت فاقدًا للقدرة على جنسِ السَّماع لفقدِ آلته كما يدَّعيه المعترض.

على أنَّ من العلماء من يذهب أنَّ المُراَ مِن السَّماع في الآية ما هو بمعنى الانتفاع والاستجابة، «فإنَّه في سياقِ خطابِ الكُفَّار الَّذين لا يستجيبون للهُدى ولا للإيمان إذا دُعوا إليه.

نظير ذلك قول الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: ١٧٩]، فالآية في نفي السَّماع والإبصار عنهم، لأنَّ الشَّيء قد يُنفى لانتفاء فائدته وثمرته، فإذا لم ينتفع المرء بما يسمعه ويبصره، فكأنَّه لم يَسمع ولا يُبصر، فسماع الموتى هو بهذه المثابة» (٢).

والَّذي ينعقد القلبُ عليه في هذا الباب: أنَّ ما يجري للميِّت مِن صنوف العذاب والنَّعيم؛ وكيفيَّة بصرِه وسمعِه، ليس مِن جنسِ المعهود في هذه الدُّنيا.


(١) كالَّذي أخرجه البخاري في (ك: الجنائز، باب: الميت يسمع خفق النعال، رقم: ١٣٣٨)، مسلم في (ك: الجنَّة وصفة نعيمها، باب: عرض مقعد الميت من الجنَّة أو النَّار عليه، رقم:٢٨٧٠) مِن أنَّ «العبدَ إذا وُضع في قبره، وتولَّي وذهب أصحابه، حتَّى إنَّه ليسمع قرع نعالهم .. ».
وما أخرجه البخاري في (ك: المغازي، باب: قتل أبي جهل، رقم:٣٩٧٦)، ومسلم مختصرًا في (ك: الجنَّة وصفة نعيمها، باب: عرض مقعد الميت من الجنَّة أو النَّار عليه، رقم:٢٨٧٥) من قول النَّبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه جوابًا لاستغرابه مناداتَه أهل القليبِ وهم أموات: «والَّذي نفس محمَّد بيده، ما أنتم بأسْمَعَ لما أقولُ منهم»، قال قتادةُ راوي الحديث: أحياهم الله حتَّى أسْمَعَهم قولَه؛ توبيخًا، وتصغيرًا، ونَقِيمَةً، وحسْرةً، وندمًا».
(٢) «أهوال القبور» لابن رجب (ص/٨١).

<<  <  ج: ص:  >  >>