للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومِن لطفِ الله تبارك وتعالى، أنْ صرَفَ أبصارنا وأسماعنا عن إدراك ما يحصل للمَدفونين؛ رحمةً بعباده، لعلمه تبارك وتعالى أنَّ قُدَرَهم لا تثبتُ على رؤيةِ العذاب وسماعه، واختبارًا لنا؛ إذْ لو كان الغيبُ شهادةً لآمَنَ كلُّ النَّاس، ولزالَ أصل الجزاء، ولمَا حصل التمَّايُز بين المؤمنين والكافرين (١)، وعلى هذا وِفاق أهل السُّنة.

يقول ابن تيميَّة: «العذابُ والنَّعيم على النَّفس والبَدن جميعًا باتِّفاق أهل السُّنة والجماعة، تُنعَّم الَّنفس وتُعذَّب منفردةً عن البَدن، وتُنعَّم وتُعذَّب متَّصلةً بالبَدن، والبدن متَّصلٌ بها؛ فيكون النَّعيم والعذاب عليها في هذه الحال مجتمعين، كما تكون على الرُّوح منفردةً عن البَدن» (٢).

فالحاصل: أنَّه ليس في العقول ما يحيل أن يمسَّ الأبدانَ مِن العذابِ أو النَّعيم ما لا يحسُّ به النَّاس في الدُّنيا، والله تعالى يقول: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: ٥٠].

فما في هذه الآية يجري كلُّه للميِّت الكافرِ أثناء موتِه، يُعذَّب بضربِ وجهِه ودُبُرِه، وليس أحدٌ ممَّن حوله يرى ذلك، ولا هو يشعر به إنسان، «فإنَّ ما وَهَبه الله تعالى له من نِعمة الحواسِّ مناسبٌ لضعفه وعجزه، فكانت حواسُّه على قدْره في الخَلق، ومهما جاهد الإنسانُ للبلوغ بها إلى حدٍّ يفوق طبيعتها البشريَّة المتَّصفة بالنَّقص والعجز: فَلنْ يُفْلح، لأنَّ هذا قَسْمُه الَّذي اختاره الله، وهذا القَسْم والخلقة جاريةٌ على مقتضى حكمة الله تبارك وتعالى، العالِم بوجوه المصالح، وأَفنان الخيور» (٣).

وفي هذا بطلانُ الدَّعوى الثَّانية في إحالةِ الضَّرورة الحسيَّة.


(١) انظر «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/٥٣٤ - ٥٣٥).
(٢) نقله عنه ابن القيم في «الروح» (ص/٥١).
(٣) «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/٥٣٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>