للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والله تعالى قادرٌ على إعادة الرُّوح إلى جميع البَدنِ، وإلى بعض أجزائِه، وكلاهما في متعلَّق قدرة الرَّب سواء، {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: ٨٢].

فإذا تَبيَّن اختلاف تعلُّق الرُّوح بالجَسد في البرزخِ عنه في الدُّنيا، فقد فسدَ تبعًا لذلك قول المخالفِ: أنَّ فقدَ الميِّت لأدواتِ الإحساسِ يُفقِده الشُّعور بالعذاب أو النَّعيم؛ وذلك أنَّ الحقيقة الشَّرعيَّة دلَّت على أنَّ الإنسان مُركَّب من نفسٍ وبَدن، وانقسام الدُّورِ إلى ثلاثٍ: دار الدُّنيا، ودار البَرْزَخ، والدَّار الآخرة، ولكلِّ واحدةٍ من هذا الدُّور أحكامها الَّتي تختصُّ بها عن غيرها.

فالله تعالى جعلَ أحكام الدُّنيا: على الأبدان، والأرواحُ تبعٌ لها؛ ولِذا أناط الأحكامَ الشَّرعية على ما يظهر من اللِّسان والجوارح، وإنْ أضْمرت النُّفوسُ خلافَه.

وجعل أحكامَ البَرْزَخ: على الأرواح، والأبدانُ تَبع لها، وتجري أحكامُه على الأرواح، فتسري على الأبدان نعيمًا أو عذابًا، بحسَب تعلُّقها به.

وجعل أحكام دار القَرار: على الأرواح والأبدان معًا (١).

فمَنْ مَاثَل بين هذه الدُّور في الأحكام، وساوى بينها، فقدْ خالَف مقتضى البراهين الشرعيَّة، والدَّلائل العقليَّة؛ إذْ العقل يمنعُ من الجمع بين المُختلفات، كما يأبى التَّفريق بين المتماثلات.

فإذا عُلِم هذا الاختلافُ بين الدُّور: زالَ الإشكال، وانقشعت حُجُب الحيرة، واستبان «أنَّ النَّار الَّتي في القَبْر والخُضرةَ: ليست من نار الدُّنيا، ولا زرع الدُّنيا، وإنَّما هي من نار الآخرة وخُضْرتِها، وهي أشدُّ من نار الدُّنيا، فلا يحسُّ بها أهل الدُّنيا؛ فإنَّ الله يُحمي عليه ذلك التُّراب والحجارة مِن تحته، حتَّى تكون أعظم حَرًّا مِن جمر الدُّنيا، ولو مَسَّها أهل الدُّنيا لم يحِسُّوا بذلك، وقُدرة الرَّب تعالى أوسعُ وأعجبُ من ذلك» (٢).


(١) انظر «الرُّوح» لابن القيم (ص/٦٣).
(٢) «الروح» (ص/٦٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>