للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا ما كان يَعتقِده مُشركو العَرب فيمن اتَّخذوهم شفعاء في صورةِ أصنامٍ، حتَّى اعتقدوا استحقاقَها بعدُ لصُروفٍ مِن العبادات، وتَصوُّر هذا المعنى كافٍ في رَدِّه؛ لذا حَسَم الله مادة التَّعلق بغيره بإبانتِه عن تمامِ مُلكِه لها.

غير أنَّ مصطفى محمود (ت ١٤٣٠ هـ) لمَّا تَصوَّر أنَّ الشَّفاعة الشَّرعية تُماثل هذا النَّمَطَ الدُّنيويَّ في شفاعاتِ النَّاس حيث يَتعلَّق المَشفوع له بالشَّافع، ومنه يَطلُب الشَّفاعة، ويقوم الشَّافع بالشَّفاعة دون إذْنٍ مِن المَشفوع عنده، ولا نَظرٍ إلى رِضاه عن الشَّفاعةِ له: انبعثَ الغَلط في اعتراضِه على إثباتها، كما قد رأيتَ من عبارته في المعارضة الأولى.

وهذا منه قياسٌ فاسدٌ الاعتبار، لأنَّ الشَّفاعة الشَّرعية مَشروطة بقيودٍ -قد ذكرناها- لا تكون معتبَرةً إلا بتحقُّقها، فينتفي نفاذها إلَّا بعد توفُّر شروطها.

وأمَّا جواب المعارضة الثَّانية: وهي دعوى أنَّ في إثباتِ حديث الشَّفاعة نقضًا لمِا أثبته الشَّرع مِن عصمةِ الأنبياء مِن الذُّنوب مطلقًا:

فإنَّ القائل بهذا قد أنبأَ عن وجهٍ قبيحٍ من أوجه غُلوِّ الرَّافضة في أئمَّتِهم، تَفرَّعت عنه هذه الشُّبهة، وذلك أنَّهم «لمَّا ادَّعَوا في عَليٍّ رضي الله عنه وغيرِه أنَّهم مَعصومون حتَّى مِن الخطأ، احتاجوا أن يُثبِتوا ذلك للأنبياء بطريقِ الأولى والأحْرى، ولما نزَّهُوا عليًّا ومَن هو دون عليٍّ مِن أن يكون له ذنبٌ يُسْتَغفَر منه، كان تنزيهُهم للرُّسلِ أولى وأَحْرى!» (١)

أمَّا جموع الأمَّة فمتَّفقةٌ على عِصمة الأنبياء في تحمُّلِ الرِّسالة وتبليغِها، كما اتَّفقَت على تنزُّهِهم مِن كبائر الذُّنوبِ وقَبائح العُيوبِ المُنفِّرة؛ إنَّما الخُلف بينهم مُنحصر في عصمتِهم مِن صغائِر الذُّنوب:

فالجمهور منهم على أنَّ الأنبياء على غير عصمةٍ من الصِّغارِ غير الخسيئةِ، وهذا قول أكثر أهلِ الكَلام، بل لم يُنقَل عن أئمَّةِ السَّلَف إلَّا ما يُوافق هذا القول (٢)، وهو الَّذي يَشهد لصحَّةِ جوازِه ووقوعِه ظواهرُ الكتاب العزيز، مِن مثل


(١) «جامع المسائل» لابن تيمية (٤/ ٣١).
(٢) انظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ٣١٩)، و «الرُّسل والرسالات» لعمر الأشقر (ص/١٠٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>