للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا النَّوع من الشَّفاعة ليس مُناقضًا للدَّلائلِ القُرآنيَّةِ الَّتي تَنفي نفْعَ الشَّفاعة للمشركين؛ لأنَّ هذه المَنفيَّةَ في القرآنِ مَخصوصةٌ بالتَّخليصِ مِن العذابِ (١)؛ فإنَّ الشَّفاعة في الخروجِ مِن النَّار لا تَتناول أهلَ الإشراكِ، وأبو طالب مات مُشركًا؛ فيكون المُراد بالنَّفعِ في آية: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: ٤٨]: «الخروج مِن النَّارِ كعُصاةِ الموحِّدين، الَّذين يخرجون منها ويدخلون الجنَّة» (٢).

ثُمَّ إنَّ خروج فَردٍ من العمومِ لنَصِّ يَستثنيه مِمَّا لا ينتصب به التَّخالف بين الأدلَّة، إذ لا تَعارض بين عامٍّ وخاصِّ؛ اللَّهم إلَّا إن كان المُعترض ينكر مَذهبَ الجمهور في تخصيصِ السُّنةِ للكتابِ، فحينئذٍ يُنتقَل معه إلى نقاشِ هذ الأصل، وبيانِ بطلانِ قولِه فيه (٣).

يقول البيهقيُّ (ت ٤٥٨ هـ) في ردِّه على الحَليمي (ت ٤٠٣ هـ) (٤) إنكارَه للحديث: «وجهُه عندي -والله أعلم- أنَّ الشَّفاعةَ للكُفَّار إنَّما امتنعَت لورودِ خبرِ الصَّادق بأنَّه لا يُشفَّع منهم أحد، وقد وَرد الخبرُ بذلك عامٌّ، فوردَ هذا عليه مَوردَ الخاصِّ على العامِّ» (٥).

وقال في موضعٍ آخر: «إنمَّا يَصِحُّ أن يقول: حديث أبي طالبٍ خاصٌّ في التَّخفيف عن عذابه بما صَنع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، خُصَّ به أبو طالب لأجلِ النَّبي صلى الله عليه وسلم تطييبًا لقلبه، وثوابًا له في نفسِه، لا لأبي طالب، فإنَّ حسنات أبي طالب صارت بموتِه على كفرِه هَباءً منثورًا» (٦).


(١) انظر «المُفهم» لأبي العباس القرطبي (٣/ ٨٤).
(٢) «التذكرة» للقرطبي (ص/٦٠٨).
(٣) انظر «الموافقات» للشاطبي (٤/ ٣٠٩)، و «إرشاد الفحول» للشوكاني (١/ ٣٨٦).
(٤) أنكره في كتابه «المنهاج في شعب الإيمان» (١/ ٣٩٠) إلا من جهة تأوليه على معنى موافق للشرع.
والحليمي: هو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الجرجاني، أبو عبد الله الحَلِيمي، أوحدُ الشَّافعيين بما وراء النَّهر وأَنْظَرهم وآدَبُهُم بعد أستاذه أَبِي بَكْر القفَّال، كان رئيس أصحاب الحديث، وله التَّصانيف المفيدة، ينقلُ منها البيهقي كثيرًا، انظر «تاريخ الإسلام» (٩/ ٥٧).
(٥) «البعث والنشور» (ص/٦١).
(٦) «شعب الإيمان» (١/ ٤٤٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>