للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكثيرٌ مِن علماءِ الكلامِ -مع تسليمِهم بصحَّةِ الحديث- يُحيلون ظاهرَه، فيتأوَّلونه على المعنى الَّذي تَستسيغه العقول، ولا تنكره في نظرِهم:

فمرَّةً يتأوَّلون الموتَ فيه: على أنَّه ملَك الموت -كما سبق نقله قريبًا عن ابن العربيِّ وابن حجر-.

ومرَّةً يتأوَّلونه على كونِه شخصًا يخلُقه الله يُسمِّيه الموت! (١)

ومرَّةً يحمِلونه على مجرَّد التَّمثيل والتَّشبيه، وأن لا حقيقة لذلك في الخارج (٢).

والَّذي يُستحسن بنا علمُه ابتداءً: أنَّا إذا وقفنا على أمرٍ من الغيوب المَحكيَّة في نصوص الوحيِ فلا نضرب له الأمْثالَ (٣)؛ وجميع ما مرَّ من تلك التَّأويلات -وإن كانت خيرًا مِن جَلافةِ الطَّعنِ في الحديث بالمرَّة- لا داعيَ لها حيث أمكنَ حملُ معنى الحديثِ على الحقيقة؛ وليس مِن حقيقة الحديث تحوُّل الأعراضِ والمعاني نفسِها إلى أجسامٍ مَحسوسةٍ! هذا في بدائِه العقولِ مُمتنع لذواتِه، ولا نَطَق بهذا النَّبي صلى الله عليه وسلم ولا أراده.

وإنَّما معناه المُراد به: ما أجاد ابن قيِّم الجوزيَّة الإبانةَ عنه بأنصعِ عبارةٍ في قولِه:

«هذا الكبش، والإضجاع، والذَّبح، ومُعاينة الفَريقين: ذلك حقيقةٌ، لا خيالٌ ولا تمثيلٌ، كما أخطأَ فيه بعض النَّاس خطأً قبيحًا، وقال: الموت عَرَض، والعَرض لا يَتجسَّم، فضلًا عن أن يُذبَح! وهذا لا يصحُّ، فإنَّ الله سبحانه يُنشئ مِن الموتِ صورةَ كبشٍ يُذبَح، كما يُنشِئ مِن الأعمالِ صورًا مُعايَنةً يُثاب بها ويُعاقَب.

والله تعالى يُنشِئ مِن الأعراضِ أجسامًا تكون الأعراضُ مادَّةً لها، ويُنشِئ مِن الأجسامِ أعراضًا، كما يُنشِئ سبحانه وتعالى مِن الأعراضِ أعراضًا، ومِن الأجسامِ


(١) ممن قال بذا أبو عبد الله القرطبي في «التذكرة» (ص/٣٨٦).
(٢) وممن قال به: المازَري، نقله عنه السيوطي في «الحاوي للفتاوي» (٢/ ١٨٢).
(٣) «فيض الباري» للكشميري (٥/ ٣٢٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>