للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنشأ الله سبحانه لهم منه نورًا يَسعى بين أيديهم، فهذا أمرٌ مَعقولٌ لو لم يَرِد به النَّص، فورود النَّص به مِن باب تطابق السَّمع والعقل» (١).

وإلى هذا المعنى نَزَع أحمد شاكر (ت ١٣٧٧ هـ) في تخريجه لـ «المُسند»، فبعد أن نَقل استشكالَ ابنَ العربيِّ للحديثِ ومحاولَته تأويلَه، قال مُعلِّقًا عليه:

«كلُّ هذا تكلُّفٌ وتَهجُّم على الغيبِ الَّذي استأثر الله بعلمِه، وليس لنا إلَّا أن نؤمن بما وَرد كما وَرد، لا نُنكر ولا نتأوَّل؛ والحديث صحيح .. وعالم الغيب الَّذي وراء المادَّة لا تُدركه العقول المقيَّدة بالأجسام في هذه الأرض، بل إنَّ العقول عَجزت عن إدراكِ حقائق المادَّة الَّتي في مُتناول إدراكها، فما بالها تسمو إلى الحكمِ على ما خرج مِن نطاق قدرتِها ومِن سِلطانها؟! .. فخيرٌ للإنسانِ أن يُؤمن وأن يعمل صالحًا، ثمَّ يَدَع ما في الغيبِ لعالمِ الغيبِ، لعلَّه ينجو يومَ القيامة» (٢).

والحمد لله.


(١) «حادي الأرواح» (ص/٤٠١ - ٤٠٢).
(٢) «مسند الإمام أحمد» بتخريج أحمد شاكر (٥/ ٣٣٣).

قلت: د. يوسف القَرضاوي -وهو مِمَّن نحا مَنحى الاستبعادِ والإحالةِ للحديث- بعدَ نقلِه إنكارَ أحمد شاكرٍ على ابنِ العربيِّ تأويلَ الحديث، اعترِفَ أنَّ مسْلكَ شاكرٍ يقوم على «مَنطقٍ قَويٍّ ومُقنِعٍ»، لكنَّه رجَّح مع ذلك طريقةِ المُتأوِّلين للحديث، حيث قال في كتابه «كيف نتعامل مع السنة النبوية» (ص/١٨٢):
«كلام الشَّيخ -يعني أحمد شاكر- .. يقوم على مَنطقٍ قويٍّ مُقنِعٍ، ولكنَّه في هذا المَقام خاصَّةً غير مُسَلَّم، والفِرار مِن التَّأويل هنا لا مُبرِّر له، فمِن المَعلوم المُتيقَّن الَّذي اتَّفَق عليه العقل والنَّقل: أنَّ الموتَ الَّذي هو مفارقةُ الإنسانِ للحياةِ ليس كبشًا، ولا ثورًا، ولا حيوانًا مِن الحيوانات؛ بل هو معنىً مِن المعاني، أو كما عبَّرَ القدماء: عَرَضٌ من الأعراض، والمعاني لا تنقلِبُ أجسامًا ولا حيواناتٍ؛ إلَاّ مِن بابِ التَّمثيل والتَّصَوُّر الَّذي يجسِّم المعاني والمَعقولات، وهذا هو الأليق بمخاطبةِ العقلِ المعاصرِ، والله أعلم».
وقد سبق ترجيح النَّأي عن هذا المسلك في التَّعامل مع الحديث في أعطافِ كلامِ ابن القيِّم، ولَم أرَ د. القَرضاويَّ يشير إليه موافقةً أو مخالفةً، فلعلَّه لم يَرَه أو لم يُقنعه، والله أعلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>