للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَصَر أَثرَ السِّحرِ فيما لا يَخرجُ عن الوجهِ الَّذي يَحتالُ أحدُنا فيه مِن أَنواعِ المَضرَّة، فأَنكرَ بذلك استطاعةَ السَّاحِر أَن يُلحِق الضَّرَرَ بالمَسحورِ على وجهٍ لا يُباشر فيه السَّاحرُ المسحورَ بالأَذى.

فلمَّا كان حديثُ عائشةَ رضي الله عنها في تأثُّرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بسِحْرِ لَبِيدٍ عن بُعْدٍ دَليلًا بيِّنًا على خلافِ ما اعتقَده: سارَعَ عبد الجبَّارِ إلى إنكارِ الخبر (١)! بل غَلَا أبو بكرِ الجصَّاص فنَسَبه إلى وَضعِ المُلحِدين! (٢)

وإنكارُ مثلِ الجصَّاص -كما يقول الحجويُّ- «لا يُؤثِّر في الحديث شيئًا، لأنَّ ابنَ الجصَّاص ليس مِن أئمَّة الحديث، وكتابُه (أحكام القرآن) بين أيدينا، فما رأيناه يَلتفتُ إلى أحاديث «الصَّحيحين» بنَفيٍ ولا إثباتٍ، كأنَّه لا روايةَ له فيهما!» (٣).

مثل هذا الاعتقاد المَشِين في الحديث قد انْطَوَى في عباراتٍ لـ (محمَّد عبده) أثناءَ حَصرِه لفظَ (السِّحر) في الحديث في مَعناه اللُّغويِّ على مَعنى التَّخيِيل، دون أن يلتفت إلى ما فهمه عليه السَّلف في مَوارِدِه الشَّرعيَّة؛ يقول: « .. جاء ذِكرُ السِّحرِ في القرآنِ في مَواضع مختلفةٍ، وليس مِن الواجبِ أن نَفهم منه ما يَفهمُ هؤلاء العُمْيان! فإنَّ السِّحْرَ في اللُّغةِ مَعناه: صَرفُ الشَّيء عن حَقيقتِه .. وماذا علينا لو فَهِمنا مِن السِّحرِ الَّذي يُفَرِّقُ بين المَرءِ وزوجِه تلك الطُّرق الخبيثةِ الدَّقيقةِ الَّتي تصرف الزَّوجَ عن زوجتِه، والزَّوجة عن زوجِها؟!» (٤).

وعلى نفس هذا المهْيَعِ في التَّأويل جرى (سيِّد قطب) في خواطره عن آيةِ النَّفاثَّاتِ مِن سورةِ الفَلَق، يقول فيها: «السِّحرُ لا يُغيِّر مِن طبيعةِ الأشياء، ولا يُنشئ حقيقةً جديدةً لها، ولكنَّه يُخيِّل للحواسِّ والمَشاعرِ بما يريده السَّاحر، وهذا هو السِّحرُ كما صَوَّرَه القرآن الكريم في قصَّةِ موسى عليه السلام .. وهكذا لم


(١) انظر كتابه «متشابه القرآن» (ص/١٠٢،٧٠٨).
(٢) انظر «أحكام القرآن» للجصاص (١/ ٦٠).
(٣) «الدفاع عن الصحيحين دفاع عن الإسلام» للحجوي الفاسي (ص/١٠٧).
(٤) «مجلة المنار» (٣٣/ ٤١ - ٤٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>