للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثمَّ إنَّ هذا الظَّن ليس مُطَّردًا، إِنَّما كان في أَمرٍ خاصٍّ مِن أُمُور الدُّنيا -وهو أمر النِّساء- لم يَتَعدَّاه إلى غيره؛ بيانه فيما قالته عائشة رضي الله عنها من رواية ابن عُيينة: « .. كان يَرى أنَّه يأتي النِّساء، ولا يَأتيهنَّ»، وفي رِوايةِ الحُميدِيِّ: « .. أنَّهُ يأتِي أهلَه، ولا يأتِيهِم».

فأمَّا قولها في الرِّواية الأخرى: «أنَّه يفعَلُ الشَّيء ولا يفعله»: هو مِن بابِ الكِنايةِ، مُكتفيةً بتلمُّحِ السَّامع لقصدِ الجماع، وقد جاء التَّصريح في غيرها مِن الرِّواياتِ -كما قد علمتَ- تبيِينًا للمُجمَل مِن تلك، لِئَلَّا يُظَنَّ أنَّ التَّخيُّل الَّذي كان يقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عامٌّ في كلِّ أفعالِه؛ فما يُتوَهَّم فيه العمومُ مِن بعضِ ألفاظِ الرُّواة مَحمول على هذا التَّخصيص.

وأمَّا ما استدلَّ به المُعترض لتدعيم دعواه من قولِه تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، مِن جهةِ أنَّ الواردَ في الحديثِ لا يَقوى على مُعارضة الآية (١):

فإنَّا لا نجد في نصِّ الآية عصمةَ النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن السِّحر؛ إنَّما المَعصوم منه فيها مُجمَلٌ، لا يتَّضح بيانه إلَاّ بتقديرِ محَذوفٍ دَلَّ عليه السِّياق مَعروفٍ عند الأُصوليِّين بدلالةِ «الاقتضاءِ» (٢).

هذا المُقَدَّر لا يخلو:

إمَّا أن يكون هو (القَتْلُ): وهو ما اختاره الشَّافعيُّ وبعضُ أَئمَّةِ التَّفسير (٣)، وبهذا التَّقديرِ تَنتقضُ مُعارضتَهم للحديثِ بالآية (٤).

وإمَّا أن يكون المُقدَّر هو (أَذى النَّاس): وهذا غير صَحيحٌ تَقديرُه؛ لأنَّ كلَّ مَن له أَدنى اطلاعٍ على سيرتِه صلى الله عليه وسلم، يَعلمُ أنَّه قد نالَه مِن الأَذى ما نَالَه، كالشَّتم،


(١) انظر «محاسن التأويل» للقاسمي (٩/ ٥٧٧)، و «نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث» للكردي (ص/١٦٠).
(٢) انظر «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٢١٩).
(٣) انظر «السنن الكبرى» للبيهقي (٩/ ١٤، تحت حديث رقم: ١٧٧٣٠)، و «معالم التنزيل» للبغوي (٣/ ٧٩).
(٤) انظر «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/٢٥٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>