للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإدماءِ عَقِبه، وكسرِ رُباعيتِه، وتأثُّرهِ بسُمِّ اليهوديَّة، وغير ذلك مِن صنوفِ الابتلاءِ الَّتي أراد الله له بها رِفعةَ المنزلة، وجعلَه قدوةَ السَّائرين إليه.

فإذا ثَبَت عدمُ عِصمتِه مِن الأَذى، فإنَّ السِّحرَ داخلٌ في مُسَمَّاه بلا شكٍّ!

ثمَّ على تقديرِ كون المَحذوفِ: (أَذى النَّاس)، فلا بدَّ من حمله على أَذى مَشروط، وهو الأَذى المانعِ مِن التَّبليغ، لا مُطلَق الأَذى؛ وهذا ما اختارَه عددٌ من المحقِّقِين مِن أهل التَّفسير (١)، وليس في ما أصابَ النَّبي صلى الله عليه وسلم في حديث السِّحر ما أعقاه عن تبليغ رسالتِه كما حَقَّقناه سابقًا.

وأمَّا دعواه في المعارضة الثَّالثة: أنَّ في إثباتِ سحرِ النَّبي صلى الله عليه وسلم تَكذيبًا لنَفيِ القرآن عنه ذلك، في قوله: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً}:

فيكفي في دحضِ هذا الفهمِ، ما أحسنَ المُعَلِميُّ سبكَ جوابه حيث قال:

«كان المشركون يَعْلَمون أنَّه لا مَساغ لِأنْ يَزعُموا أنَّه صلى الله عليه وسلم يَفتري الكذبَ على الله عز وجل فيما يُخبِر به عنه، ولا لِأَن يَكذب في ذلك مع كثرته غير عامدٍ، فلجَأوا إلى مُحاولةِ تقريبِ هذا الثَّاني، بزعمِ أنَّ له اتِّصالًا بالجِنِّ، وأنَّ الجِنَّ يُلقون إليه ما يُلقون، فيُصَدِّقهم، ويُخبرُ النَّاسَ بما ألقوه إليه.

هذا مَدار شُبهتِهم، وهو مُرادهم بقولهِم: به جِنَّة، مَجنون، كاهنٌ، ساحرٌ، مَسحور، شاعرٌ، .. كانوا يَزعمون أنَّ للشُّعراء قُرَناء مِن الجنِّ تُلقي إليهم الشِّعر، فزَعَموا أنَّه شاعرٌ، أي أنَّ الجِنَّ تُلقِي إليه كما تُلقي إلى الشُّعراء، ولم يقصدوا أنَّه يقول الشِّعر، أو أنَّ القرآن شِعرٌ.

إذا عُرِف هذا؛ فالمشركون أرادوا بقولهم: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ رَجُلاً مَّسْحُوراً}: أنَّ أمر النُّبوة كلُّه سِحْرٌ، وأنَّ ذلك ناشئٌ عن أنَّ الشَّياطين استَولوا عليه -بزعمِهم- يُلقون إليه القرآن، ويأمرونَه، ويُفهمونه، فيصدِّقهم في ذلك كلِّه، ظانًّا أنَّه إنَّما


(١) انظر «جامع البيان» للطبري (٨/ ٥٦٧)، و «أنوار التنزيل» للبيضاوي (٢/ ١٣٦)، و «تفسير القرآن العظيم «لابن كثير (٣/ ١٥١ - ١٥٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>