للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيها خاصَّة، كالبرودةِ الَّتي في ماء البِئر، وظُلمتِه إذْ كان في قَعْرِه، ورَمزيَّة الماءِ إلى مَاءِ الرَّجل، ليكون أمكنَ في حبسِه عن نسائِه، .. وهكذا.

فهذه المَواد تُؤثِّر في أعضاءِ الجسَدِ المُرادِ سِحرُه عن طريقِ أثَرٍ مِن هذا الجَسد، وهذا المَعروف في علمِ السِّحر بـ «قانون الاتِّصال»، مُنْبَنٍ على أنَّ كُلَّ شيءٍ مُنفصلٍ من الجَسد لا يزال مُرتبطًا به عبرَ الأثِير؛ هذا الأثَر في الحديث شَعراتٌ مِن مُشطِ النَّبي صلى الله عليه وسلم! جعلهنَّ السَّاحرُ صِلةَ وَصْلٍ بين طَبائعِ تلك المَوادِّ وجَسِدِ المَسحور، بواسطة طلاسِم مُعيَّنة يعرفونها، وربطِ عُقَدٍ مُوثَّقة، لتُأثِّر في الجسدِ وِفقَ طبائعِ ما استعمَلَه مِن مَوادَّ في سِحره، كما أسلفنا الإشارة إليه.

فهذا السِّحر هو عَينُ ما استعمله لَبيدٌ، وهو مِن أخطرِ وأقوى أنواع السِّحر، والله تعالى أعلم، وهذا لا مانع عقلًا أن يصيب جسد النَّبي صلى الله عليه وسلم إذا شاءه الله لحكمة؛ وإلَّا، فما فائدة أمرِه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بالتَّعوُّذِ مِن شرِّ النَّفاثاتِ في العُقد -وهنَّ ممَّا يَنشأ عنهنَّ السِّحر- إذا امتنع أن يؤثِّر فيه السِّحر من الأساس كما يقول أولئك النُّفاة؟!

هذا؛ وإنَّ في إثباتِ ما تَضَمَّنه الحديث مِن مُصاب النَّبي صلى الله عليه وسلم بالسِّحرِ مِن الفرائدِ واللَّطائفِ والعِبَر ما لا يَتَسنَّى إيرادُه في هذا المَقام، وليس في ذلك غَضٌّ مِن مَنصب النُّبوة، بل الدَّلائل الشَّرعية تدلُّ عليه، إمَّا نَصًّا أَو ظاهرًا.

وقد تلقَّاه أئمَّة الحديث بالقبول (١).


(١) ولا يفرَحْ عَجِلٌ بتكذيبِ الحديث بما يلقاه عند الحاكم في «مدخله إلى الإكليل» (ص/٣٩) مِن قوله في هذا الحديث: «هو مخرَّجٌ في الصَّحيح، وهو شاذ بمرَّة».

وذلك أنَّ للحاكم اصطلاحًا خاصًّا للشَّاذ، قد أوضحه في «معرفة علوم الحديث» (ص/١١٩) أنَّه «ما انفرد به الثِّقة، وليس للحديث أصل متابع لذلك الثِّقة في المتن أو الإسناد». اهـ فليس الشُّذوذ وصفًا مناقضًا عنده للصِّحة مطلقًا، بدليل تمثيلِه له بثلاثة أحاديث، منها ما نَفى عنه العِّلة! بل فيها ما صرَّح بتصحيحه في «المستدرك»!
ثمَّ إنَّ في كتابِه «المدخل إلى الإكليل» عينِه ما يُبين عن مُراده من هذا اللَّفظ، فإنَّه أورد فيه هذا الحديث في سحر النبَّي صلى الله عليه وسلم مثالًا للقسم الرابع من أقسام الحديث الصَّحيح (المتَّفق عليه!)، وهو قسم قد ذكر أنَّه خاصٌّ بالأحاديث الأفراد والغرائب الَّتي يرويها الثِّقات العدول، تفرَّد بها ثقة من الثِّقات، وليس لها طرق مخرَّجة في الكتب .. إلخ.
فظاهر بهذا موافقته على أنَّ حديث عائشة هذا صحيح حجَّة، وأنَّ وصفَه له بالشُّذوذ إنَّما كان باعتبار التَّفرد لا غير؛ بغضِّ النَّظر عن قبوله أو تعليلِه؛ والله تعالى أعلم.
وانظر لمزيد تفصيل «الشاذ والمنكر وزيادة الثقة» لعبد القادر المحمدي (ص/٨٦ - ٩٤).
الشاذ والمنكر وزيادة الثقة - موازنة بين المتقدمين والمتأخرين (ص: ٩١)
ويظهر بجلاء منهج الحاكم في عد تفرد الثقة شذوذًا، إذ عد حديث أنس: «كان منزلة قيس بن سعد ... »، شاذًا وهو مخرج في صحيح البخاري (٢)، قال الحافظ ابن حجر: «والحاكم موافق على صحته إلا أنه يسميه شاذًا، ولا مشاحة في الاصطلاح».
أقول: ويؤيد ما استنتجه منه علماء المصطلح من أنه أراد به تفرد الثقة مطلقًا؛ صنيعه في أمكنة أخرى، منها ما ذكره في كتابه المدخل إلى الإكليل، والأمثلة التي مثل بها، وكذلك بعض الأحاديث التي أعلها في المستدرك.
ففي كتابه المدخل إلى الإكليل ذكر أقسام الحديث الصحيح المتفق عليه، وفي (القسم الرابع من الصحيح المتفق عليه) قال: «هذه الأحاديث الأفراد والغرائب التي يرويها الثقات العدول تفرد بها ثقة من الثقات، وليس لها طرق مخرجة في الكتب
ثم ضرب لهذا القسم أمثلة منها: حديث اتفق على إخراجه الشيخان وهو حديث عائشة رضي الله عنها في سحر النبي - صلى الله عليه وسلم فالحاكم هنا موافق على أنه صحيح حجة لكنه يصفه بالشذوذ باعتبار التفرد فقط.
الشاذ والمنكر وزيادة الثقة - موازنة بين المتقدمين والمتأخرين (ص: ٩٣)
وهكذا لا يبقى شك في أن الشذوذ عند الحاكم ليس وصفًا مناقضًا للصحة، بل هو عبارة عن وصف الحديث بالتفرد بأصل لا متابع له فيه بغض النظر عن قبوله أو رده
الشاذ والمنكر وزيادة الثقة - موازنة بين المتقدمين والمتأخرين (ص: ٨٦)
قال الحافظ ابن حجر: «والحاصل من كلامهم أن الخليلي يسوي بين الشاذ والفرد المطلق فيلزم على قوله أن يكون في الشاذ الصحيح فكلامه أعم، وأخص منه كلام الحاكم لأنه يقول: إنه تفرد الثقة فيخرج تفرد غير الثقة فيلزم على قوله أن يكون في الصحيح الشاذ وغير الشاذ،
الشاذ والمنكر وزيادة الثقة - موازنة بين المتقدمين والمتأخرين (ص: ٨٨)
أقول: إن أبا عبد الله الحاكم أول من تكلم من كتّاب المصطلح في الشاذ وكلامه في كتابه «معرفة علوم الحديث» واضح بين، وهو أن الشاذ ما انفرد به الثقة وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة في المتن أو الإسناد، وقد مثل بثلاثة أمثلة، منها نفى عنها العلة، بل منها ما صرح بتصحيحه في كتابه المستدرك!

<<  <  ج: ص:  >  >>