للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمَا وإنَّا معاشر المسلمين مُستيقِنون بكرامةِ الله لنبيِّه بتلك الآياتِ الباهرات، فإنَّا نقول في دحضِ ما شَغَّب به المُبطلون لهذه الكرامةِ الإلهيَّةِ، في دعوى أنَّ إثباتَ الآياتِ المادِّيَّة الحاصلةِ للنَّبي صلى الله عليه وسلم غيرُ متأتٍّ؛ لأنَّ الدَّليل الحسِّي لا يقوم بإثباتها:

إنَّ دعواكم هذه عَريَّة عن التَّحقيقِ وحُسنِ التَّصوُّر لِما يُحتَجُّ به مِن مناهج الاستدلال، وذلك أنَّ الحِسَّ ليس المَصدر الوَحيدَ للمعرفةِ، لم يكُن كذلك في تاريخ البشريَّة كلِّها ولن يكون، وخروج بعض المَعارف عن دائرتِها لا يَنفي عنها كونها حقائق ثابتة بمصدرٍ آخر صحيح مُعتبَر.

هذا ما قد صَرَّح به كثيرٌ مِن النَّاقدين للأديانِ من الغَربيِّين أنفسِهم، كان مِن أشهرِهم: (هِنْري بوانْكارِيه) (ت ١٩٢١ م) المَنعوتِ بـ «المُمثِّل النَّموذجي لنقدِ العِلمِ»؛ فقد ألزَم الوَضعيَّةَ بأنَّ حصرَ الحقيقةِ في المنهجِ التَّجريبيِّ دعوى مُشبعة بقدرٍ من المجازفةٍ والتَّعميمِ المتعسِّف الَّذي لا برهان عليه (١).

وذلك لأنَّ الحقائقَ المَوجودة في الكَوْنِ مُختلفةٌ في طبائِعها، ومتباينة في سِماتها؛ فالحقيقة الفيزيائيَّة -مثلًا- مختلفة عن الحقيقةِ الإنسانيَّة، والظَّواهر الإنسانيَّة مُباينةٌ للظَّواهر الكونيَّة، .. إلخ؛ فمِن غير المَعقول أن تُحصَر كلُّ هذه المجالات المتباينةِ في منهجٍ واحدٍ للتَّعامل معها، بل لا بدَّ مِن تَضافر عِدَّة مَصادر مَعرفيَّة وتكاملِها، لأجلِ استيعابِ جميعِ المُكوِّنات الوُجودِيَّة.

فلو افترضنا جدلًا أنَّ العِلْمَ التَّجريبيَّ استطاعَ الجوابَ عن كلِّ الأسئلةِ المَاديَّة التَّجريبيَّة، فإنَّ هناك ركامًا من الأسئلةِ الأخرى تبقى مُلقاةً على قارعة الطَّريق لا طاقةَ لمعاملِ التَّجريب في الجواب عنها! كونها لا تدخل في نظامِ بحثه من حيث طبيعتُها وماهيَّتها؛ كسُؤالِ الخَيرِ والشَّر، وسؤال الحكمةِ والتَّعليلِ، والمَبادئ والأخلاق، والغَيْبِيَّات، ونحو ذلك مِن الأسئلة الوجوديَّة الكبرى.


(١) انظر شيئا من ترجمة (هِنْري بوانْكارِيه) وموقفه هذا في «مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا» لـ ج. بنروبي (ص/٢٩٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>