للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُحصِّل ما تقدَّم: أنَّ الحقائق العلميَّة لا يمكن حصرها في دائرة الحِسِّ والتَّجربة؛ ولكن طبيعة المَوضوع المَبحوث فيه هي الكفيلةُ بتَحديدِ المَنهجِ العلميِّ الأنسبِ له (١)!

ومع التَّسليم بعملِ المنهج الوضعيِّ على إثباتِ ما كان داخلًا في الحسِّ والتَّجربة، فإنَّه لا يَلزم مِن عَدم قدرةِ منهجٍ ما على إثباتِ شيءٍ نفيُه في حقيقة الأمر! ومِن ثَمَّ جاز لنا القول بأنَّ حكم الوضعيِّين على الآياتِ الحسيَّة بالبُطلان هو «خروجٌ عن مفهوم هذا المنهج نفسِه ووقوعٌ في التَّناقض! لأنَّ الحكمَ بالصِّحة والبطلان تحكُّم ميتافيزيقيٌّ، ليس مِن أصُولِ هذا المنهج ولا مِن شأنِه» (٢)!

فمَنْ مارى في هذه الحقيقة المنهجيَّة، لا بدَّ أن تَجْبهَه مَعارفُ أضحَتْ حقائقَ لا تَقبَل الشكَّ عند أصحاب المنهج التَّجريبيِّ أنفسهم؛ مع أنَّها لم تُباشرْها الحَواسُّ، ولم تُدرَك في مَعامل البحث، ولم تخضع للتَّجريب! (٣)

ونفيُ المتأثِّرين برَهَج المنهجِ التَّجريبيِّ لآيات الأنبياءِ لكونِها بطريقِ النَّقلِ لا التَّجربة يَلزمُهم على قولِهم نَفيُ الحقائق التَّجريبيَّة الَّتي لم يُباشِرها النَّاس! ولم يدركوها بحواسِّهم! لأنَّها إِنَّما نُقِلَت إليهم نقلًا عمَّن جَرَّبها! فنفيُ الأوَّل دونَ الثَّاني تحكُّمٌ (٤).

وما أبلغَ تعبير بحَّاثة غَربيٍّ عن عَجزِ التَّجربةِ في إثباتِ جميعِ الحقائق، في اعترافٍ له آخرَ عُمْرِه يقول فيه: «إنَّ العلمَ يَصطاد في بحرِ الواقعِ بنوعٍ مُعيَّنٍ مِن


(١) من أشهر فلاسفة العلمِ الَّذين نادوا بتعدُّد المناهج العلميَّة: الفيلسوف (باومر فيير أيند) (ت ١٩٤٤ م)، حيث ألَّف كتابًا أسماه «ضدَّ المنهج: مخطَّط تمهيديٌّ لنظرية موضوعيَّة في المعرفة»، يقوم على فكرة أساسةٍ مفادها: أن العلم لم يكن أبدا أسيرَ منهج واحد محدَّد، وإنَّما عملت فيه مناهج متعدِّدة، اشتركت جميعًا في بناء هيكله، واستدلَّ بشواهد كثيرة من تاريخ العلم، انظر «فلسفة العلم في القرن العشرين» ليُمني الخولي (ص/٣٦٧).
(٢) انظر «الفكر المادي الحديث وموقف الإسلام منه» لمحمود عبد الحكيم عثمان (ص/٤٤٨).
(٣) انظر «الإسلام يتحدى» لوحيد الدين خان (ص/٤٧).
(٤) «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/٣٣١ - ٣٣٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>