للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي بيان انتفاءِ هذا التَّناقض، يقول عَقِيل القُضاعِيُّ المُرَّاكشي (ت ٦٠٨ هـ) (١) متعقِّبًا الحُميديِّ (ت ٤٨٨ هـ) في استشكاله ما حَصَل مِن رؤيتِه صلى الله عليه وسلم لإخوانِه الأنبياءِ في مَواطِن مختلفة حين قال: «ومِن المحال أَن يكونوا في مكانين مختلفين في وقت واحدٍ!»؛ فقال القُضاعِيُّ:

«قولُ الحُميديِّ .. قولٌ صَحيح في نفسِه، مَعلومٌ ببديهةِ العقلِ .. إنَّ كونهم -أي الأنبياء- تلك اللَّيلة في السَّماوات، إِنَّما كان بسبب عروج النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى السَّماوات، فيكون كونهم هنالك، ككونهم ببيتِ المقدس، وككونِ موسى في قبره يُصلِّي، ثمَّ ينتقلون مِن ذلك الموضع إلى حيثُ شاء الله من الجنَّة، أو من غيرها.

ويجوز أن يكون ذلك مَوضعهم في الغالب، ولا نقول إنَّه مَوضعهم على الدَّوامِ بسبب كونهم ببيت المقدس تلك الَّليلة، وكما جاز في تلك اللَّيلة يجوز في غيرها؛ وعلى الجُملة: فالدُّخول في مثل هذه المَضايقِ لا يَنبغي لعاقِلٍ، فإنَّها مُغيَّبة عنَّا، وإِنَّما نتكلَّم فيها بِحَسَبِ ما فهمناه مِن الشَّريعة» (٢).

فإن قيل: فكيف لموسى عليه السلام أن يصلِّي في قبرِه وهو مَيِّت، وروحه في السَّماء؟

فيُقال: إنَّ لِعالَم الأرواح خصوصيَّةً تختلف عن شأنِ البَدَن، وقد بيَّن ابن تيميَّة جواب هذا السُّؤال في قوله: «وأمَّا كونُه صلى الله عليه وسلم رأى موسى عليه السلام قائمًا يُصلِّي في قبره، ورآه في السَّماء أيضًا: فلا منافاة بينهما؛ فإنَّ أمرَ الأَرواحِ مِن جِنس أَمرِ الملائكة، في اللَّحظة الواحدة تصعدُ وتهبِطُ كَالمَلَكِ، ليست في ذلك كالبَدَنِ» (٣).


(١) عقيل بن عطية القُضاعي الطَّرطوشيُّ ثمَّ المرَّاكشيُّ: حافظ متقن، مُتصرف في فنون من العلم، مع حسن الخطِّ والمشاركة في الأدب، وليَ قضاء غرناطة وسجلماسة، من مصَّفاته: «شرح مقامات الحريري»، و «رد على ابن عبد البر في بعض تواليفه وتنبيه على أغلاطه»، انظر «التكملة لكتاب الصلة» لابن الأبَّار (٤/ ٣٣)، وانظر مُقدِّمة مصطفى باحو لتحقيق كتابه «تحرير المقال».
(٢) «تحرير المقال» لعقيل بن عطية (١/ ١٠٧ - ١٠٨).
(٣) «مجموع الفتاوى» (٤/ ٣٢٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>