للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهي المرحلة الثَّانية: أمرُهم بقتالِ مَن قاتلَهم، والكفِّ عمَّن كفَّ عنهم:

وذلك حين رَمَتهم العَربُ عن قوسٍ واحدةٍ، وشَمَّروا لهم عن ساقِ العَداوةِ والمحاربةِ، وصاحوا بهم مِن كلِّ جانبٍ، فبعد أمرِه سبحانه للمؤمنين بالصَّبر والعفو والَّصفح: أَمَرهم أمرًا مباشرًا ألَّا يقاتلوا إلَّا مَن قاتلَهم مِن المشركين فقط، لأجل أن يتفرَّغوا لبناءِ دولتِهم الفتيَّة، بعيدًا عن وهجِ السُّيوفِ، وزلزلةِ الحروبِ.

ويدلُّ على هذه المرحلةِ قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: ١٩٠]، وقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء: ٩٠]، والمعنى: «إن اعتزَلَكم هؤلاء المشركون الَّذين أمَرتُكم بالكفِّ عنهم، وألقوا إليكم الصُّلحَ والأمان، فإنَّ الله لم يجعل لكم على أنفسِهِم وأموالهِم وذَرارِيهم ونسائِهم طريقًا إلى قتلٍ أو سباءٍ أو غنيمةٍ، بإباحةٍ منه ذلك لكم ولا إذنٍ، فلا تعرِضوا لهم في ذلك، إلَّا سبيلَ خيرٍ» (١).

فلذلك لمَّا قدِم النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ لم يبدأ أحدًا بقتالٍ، وإنَّما هي المُوادَعة والمُعاهدة والمُآلفة منه لأعدائِه، كاليهود (٢).

فلمَّا قَوِيت شَوكةُ الإسلام، واشتدَّ جناحُه، وكثُر جمعُه، وقويت نفوسُ حَمَلَتِه بما شاهَدوه مِن نصرِ الله: استحَقُّوا بعد ذلك أن يكونوا مِن أهلِ:

المرحلة الثَّالثة: حيث أُمروا بقتالِ أصحاب الشَّوكةِ من المشركين ابتداءً إذا منعوا دعوة الإسلام، ولو مِن غير عُدوانٍ سابقٍ منهم، حتَّى يُسْلِموا لله تعالى، أو يُعطوا الجِزيةَ عن يَدٍ وهم صاغرون، خاضعونَ لحكم الإسلام وذِمَّتِه.

وفي تقرير هذا التَّدريجِ المَرحليِّ للجهاد، يقول ابن القيِّم: «فُرض عليهم قتال المشركين كافَّةً، وكان مُحرَّمًا، ثمَّ مَأذونًا به، ثمَّ مَأمورًا به لمن بَدَأهم


(١) «جامع البيان» للطبري (٧/ ٢٩٧) بتصرف يسير.
(٢) انظر «السيرة النبوية الصحيحة» لأكرم العمري (١/ ٢٧٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>