للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسيأتي تفصيل لهذا الأصلِ المَكينِ في موضِعِه مِن هذا البحث.

وأمَّا ما قاله بخصوص الدَّليل العَقليِّ: فليس النَّظر العَقليُّ مِيزانًا دَقيقًا رِياضيًّا لا يختلِفُ النَّاس في أحكامِه حتَّى يكون قطعيًا بالاطِّراد، «لاحتمالِ عدمِ انتفاءِ القوادِحِ على الواسطةِ بين المُقدِّماتِ ونتائجِها، فيكون مَنْبعُ الزَّللِ مِن جهةِ تحقيقِ مَناطِ المُقدِّمة المُتيقَّنة على نتيجتِها وفرعِها» (١).

وفي نفي هذا الاطِّراد يقول ابن تيميَّة: «ما يُسمِّيه النَّاس دليلًا مِن العقليَّاتِ والسَّمعياتِ، ليس كثيرٌ منه دليلًا، وإنَّما يظنُّه الظَّانُ دليلًا، وهذ مُتَّفق عليه بين العُقلاء» (٢).

ثمَّ إنَّ النَّاس ليسوا يَتأثَّرون بالمنطقِ العِلميِّ الصَّارِم فقط حتَّى نقول بقطعيَّة كلِّ أحكامه! فعقلُ الإنسانِ لا يعمل بهذه الطَّريقة الآليَّةِ البحتَة، فإنَّ «العَقل المُبرَّأ مِن النَّقصِ والهَوى لا وجود له في دُنيا الواقع، وإنَّما هو مِثالٌ» (٣).

بل أكثرُ العقولِ إنَّما تَتَأثَّر بخبرةِ الإنسان، وعاطِفَتِه، وهَواه، وبَيئتِه، وتَعصُّبِه لطائِفتِه، ويَعتري نفسَ العقلِ الذُّهولُ والغفلة، وتُؤثر فيه الضُّغوط والمُتغيِّرات، وعوامِلُ كثيرةٌ تَتَدخَّل في طريقةِ تفكيرِه، شَعَر صاحبُه بذلك أم لم يشعُر؛ ما يجعلُ الإنسانَ يُغيِّر رأيَه في كثيرٍ مِن القَضايا، بعد أن كان يَرى رأيَه الأوَّل فيها عَينَ العقلِ! و «إذا أرادَ الله أن يُزيلَ عن عبدٍ نِعمةً، كان أوَّلَ ما يُغِيِّر منه عَقلُه» (٤).

وعلى مثلِ عقولِنا النَّاقصةِ هذه يَصدُق بَليغُ قولِ أبي حيَّان التَّوحيديِّ (ت ٤٠٠ هـ) (٥): «أين يُذهَب بهؤلاء القوم؟ أمَا يعلمون أنَّه كما يرِدُ على


(١) «دفع دعوى المُعارض العقليِّ» (ص/٦١).
(٢) «درء التَّعارض» (١/ ١٩٢).
(٣) «خصائص التَّصور الإسلامي» لسيِّد قطب (ص/٢٠).
(٤) نَقَله الجاحظ في «البيان والتبيُّن» (٢/ ١٩٩) من قولِ فيروز بن حُصين.
(٥) علي بن محمد بن العباس التوحيدي: فيلسوف، ومتصوف معتزلي، نعته ياقوت بشيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء، وقال ابن الجوزي: كان زنديقا! ولد في شيراز (أو نيسابور) وأقام مدة ببغداد، وانتقل إلى الريّ، من مؤلفاته: «البصائر والذخائر»، و «المتاع والمؤانسة»، انظر «الأعلام» للزركلي (٤/ ٣٢٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>