للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العَينِ ما يَغشى بصَرَها مِن نورِ الشَّمس، كذلك يَرِد على العقلِ ما يَغشى بَصيرَتَه مِن نورِ القُدس؟! ما أحوجَ هؤلاء المُدلِين بعقولهِم، الرَّاضين عن أنفسِهم، العاشِقين لآرائِهم، أن يُنعِموا النَّظر، ويُطيلوا الفِكر، ولا يسترسلوا مع السِّانح الأوَّل، ولا يسكنوا إلى اللَّفظِ المُتأوَّل، ولا يعولوا على غير مُعوَّل» (١).

نعم؛ إنَّ الله تعالى وإن جَعَل للعقولِ مَوازين فِطريَّةً دقيقةً، لكنَّ النُّفوسَ تعبَثُ بها بأهوائِها، فتنسِبُ رَغباتِها ومَألوفاتِها إلى العقل؛ فتراها بهذا تَقفِزُ على الحقائِق، وتَتَجاهلُ مُقدِّماتِها، وتَتَعسَّف في تأويلِ ما لا يَروقُها تصديقُه، لتصِلَ إلى النَّتيجة الَّتي تَشتهيها، وإن كانت باطِلةً، ثمَّ تُسمَّي هذا عقلًا!

فانظر إن شئت حالَ يَهودٍ في القرآن، كيف تَواصَوا على كَتمِ ما عَلِمُوه مِن نُبوَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إذ قالوا: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: ٧٦]! فجَعَلوا طمسَ ما عَلِمُوا مِن الحقِّ عين التَّعقُّل -وهو عَينُ الحُمقِ والسَّفَه! - والإنكارَ على مَن أفشَى الحقائقَ بأنَّه لا يَعقِلُ.

وبه تَعلمُ العلَّة من تَسميةِ السَّلفِ لضُلَّالِ المُبتدِعةِ بـ (أهلِ الأهواء)، لأجل «غَلَبةِ الهَوى على عقولهِم، واشتهارِهم به» (٢).

من هذا يتحصَّل: أنَّ المُطالبة بتهذيب النُّفوسِ أوْلى وآكدُ من تصحيح العقول، ذلك أنَّ العقل المُجرَّد مُنصِفٌ لكن إن تَرَكته النَّفس! ولم تدُسَّ فيه هَواها، وبذا تُدرك سِرَّ كثرة مدح الله للعقلِ وذمِّه للنَّفس (٣)!

إذا تَقرَّر هذا: فإنَّه لا مَحيد عن القول بأنَّ كِلَا الدَّليلين -العقليِّ والنَّقلي- تَعْتوِرُهما القطعيَّةُ والظَّنيَّةُ، فلا تُحصَر القطعيَّة في الدَّليل العقليِّ، ولا الظَّنية إلى الدَّليل النَّقلي؛ بل لا يخلوا الحالُ مِن أنْ يكون الدَّليلان: إمَّا قطعيَّان، أو ظنِّيَّان، أَو أحدهما قطعيٌّ، والآخر ظَنيٌّ.


(١) «البصائر والذخائر» لأبي حيَّان (٧/ ٥٩).
(٢) «الاعتصام» للشاطبي (ص/١٩٢)
(٣) انظر هذا المعنى في «سطور» لعبد العزيز الطريفي (ص/٢٠٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>