للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذا الأصل قد تواردت نصوصُ الكتاب والسُّنة على تقريره وتأكيده، وذهبَ جماهير العلماء إلى تقديمِه والقضاءِ به على النُّصوص الجزئيَّة في بابِه، فتكون مَردودةً إليه؛ وهذا مَسلك جمهورِ الأشعريَّة مِن المُتكلِّمين، وكثيرٌ مِن أئِمَّة الحديث والفقه (١).

ولا شكَّ أنَّ الأخذ بهذا الأصل القطعيِّ، ومحاكمةِ ظاهر النُّصوص الَّتي جاءت في إلحاقِ العقوبة ببعضِ أهل الجاهليَّة إليه: هو القول الصَّحيح الجاري على مُقتضى المنهجيَّة العلميَّة الصَّحيحة، فإنَّ الأحكام الشُّموليَّة القطعيَّة الَّتي قامت عليها الشَّريعة في تكليف العباد، واستفاضت النُّصوص في الدَّلالة عليها -كمثلِ أنْ لا عَمل شرعيَّ إلَّا بنيَّة، ولا تكليف إلَّا مع القدرة، وأنَّ المُكلَّف لا يُعاقب بجُرم غيره، ونحو ذلك من الأصول المُحكمة في الشَّريعة- إذا جاء في ظاهرِ بعض النُّصوص ما يُناقض ذلك: فإنَّه لا يَصحُّ لنا القدح في ذلك الأصلِ القَطعيِّ، أو تجاوزه وعدم اعتبارِه.

فهذا ممَّا لا ينبغي أن نختلف فيه على الحديث.

إنَّما الشَّأن في الفهمِ الصَّحيحِ لِما ادُّعِي نقضُه من تلك الأخبار لأصلٍ مِن تلك الأصول المَرعِيَّة! فإنَّ الخبرَ إذا ساغَ حملُه على معنًى لا يتناقض مع أصلِ منها، وجب المَصير إليه، دون الهرولةِ إلى الإنكارِ جُزافًا من غير تثبُّتٍ أو توقُّفٍ.

وكان العلماء قد سعوا حثيثًا في تطبيقِ هذا المَنهج على مسألتِنا هذه بِما تضمَّنته من أخبارٍ في تعذيبِ بعضِ أهلِ الفترةِ، فحيث استقرَّ لديهم أنْ لا عذابَ إلَّا بعد قيامِ الحُجَّة، قصدوا إلى تأويلِ تلك الأخبار النَّبويَّة على مَعانٍ توافق هذا الأصل، فاختلفوا في ما تُحمَل عليه، على أقوال عدَّة:

منهم مَن ذهب إلى نَفيِ العذابِ عن أهل الفترة بإطلاق، فيَراهم بذلك ناجين في الآخرة: وهؤلاء جمهور الأشاعرة (٢)، وبعض فقهاءِ الشَّافعيَّة (٣)، وكان مَوقفُهم مِن أخبارِ العذابِ مُتباينًا على فريقين:


(١) وستأتي أقوال بعضهم عن قريب في ذكر أقوال العلماء في حكم أهل الفترة.
(٢) انظر حاشية ابن الأمير المالكي على «إتحاف المريد» (ص/٥٨ - ٥٩).
(٣) «الحاوي» للسيوطي (٢/ ٢٠٢)، وحاشية السندي على «سنن ابن ماجه» (١/ ٤٧٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>