للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فريقٌ: يقصُر التَّعذيب على مَن ذُكِر في النُّصوصِ فقط، ويفوِّضون علمَ سبب تَعذيبِهم إلى الله تعالى (١).

ولا يخفى أنَّ هذا المسلك في التَّفويض لا يُوفَّق بمثله بين المُتعارضات، وهذا الَّذي أنكرَه (محمَّد الغزاليُّ) على مُجادلِه، وله الحَقُّ في أن يُنكرَ عليه هذا المنطق في التَّفكير! فإنَّ القول بالتَّفويض مَشروع فيما تَقَصَّد الشَّرع إخفاءَ عِلْمِه عن المُكلَّف؛ ومسألتُنا خارجةٌ عن هذا النِّطاق، فهي استعلامٌ عن الحكمةِ مِن إخراجِ بعضِ الأفرادِ مِن عمومِ الخطابِ الإلهيِّ، قصدَ التَّوفيقِ بين كلماتِه -سبحانه- وبين أفعالِه، نفيًا للتَّخالف بينهما في الأذهانِ.

وليس ينزعُ إلى مثل هذا المسلكِ في الغالبِ إلَّا مَن يَنفي الحكمَةَ عن أفعالِه سبحانه، وقد أبانَ عن بطلانِ هذا العَقدِ أئمَّةُ السُّنةِ والجماعة، بما لا يسع بسطُه في هذا المَقام (٢).

وفريق آخر: رأى الأخبار الَّتي جاء فيها تَعذيبُ بعضِ أهل الفترة أخبارَ آحادٍ، لا يصحُّ الاعتماد عليها، خاصَّة وأنَّها عارضت الأصول القطعيَّة (٣).

وهذا أيضًا مسلكٌ علميٌّ غير سديد! فإنَّ الآحاد الصَّحيحة مُعتبرة في العقائد، فكيف إذا استفاضت وبلغت مبلغَ العِلم القطعيِّ بمجموعِها؟! كما الشَّأن في هذه الأحاديث المُثبتة لعذابِ بعضِ أهل الفترة؛ فلا مُسَوَّغ بعدُ لهذا المسلك في ردِّها (٤).


(١) انظر «تحرير المقال في موازنة الأعمال» (ص/٤٢٥).
(٢) انظر في استيفاء شُبه النَّافين للحكمة والتَّعليل الإلهيَّين، وذكر الأجوبة عنها: في «شفاء العليل» لابن القيم (ص/٢٠٦).
(٣) انظر «حاشية المحلِّي على شرح العطَّار على جمع الجوامع» (١/ ٨٨)، و «تحرير المقال» لعقيل بن عطية (ص/٢٤٥).
(٤) من أشهر مِن تصدَّى لردِّ هذه الآحاد في تعذيب بعض أهل الجاهلية: السُّيوطي، في ست رسائل خصَّصها لإثبات نجاة أبَوي النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأفرط حين أثبت الحديثَ الموضوع في بعثَهما مِن موتهما ليُؤمنا به، وصحَّح حديثًا في ذلك عن طريق ما يدَّعيه من الكشف والمنام! مع محاولات واهية لتضعيف حديث مسلم: «إن أبي وأباك في النار»، هذا كلُّه ممَّا عابه عليه المُحقِّقون من العلماء، انظر إحدى رسائله تلك في «الحاوي للفتاوي» (٢/ ٢٤٤): «مسالك الحُنفا في والدي المصطفى».

<<  <  ج: ص:  >  >>