للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والوجه الثَّالث: تقلُّبك في صَلاتِك مِن خلفِك، كما تَرَى بعينِك مِن قُدَّامك، وهذا قول مجاهد.

والرَّابع: أنَّ معنى الآية: أنَّ الله يرى تقلُّبَك في الرُّكوعِ والسُّجودِ، والقيامِ مع المُصلِّين في الجماعة، فهو يَراكَ وحدَك، ويَراكَ في الجماعة (١).

وهذا أوْجَهُ الوجوهِ في تأويلِ الآية، وهو الظَّاهرُ مِن مَعناها (٢)، وعليه أكثر المفسِّرين مِن السَّلَف والخَلف (٣)؛ والتَّعبير فيها عن المُصَلِّين بالسَّاجِدين لكونِ السُّجودَ حالةُ مَزيد قُربِ العَبدِ مِن ربِّه عز وجل، وهو أفضلُ الأركانِ على ما نَصَّ عليه جمعٌ مِن الأئِمَّة (٤)؛ فيكون الخَبَر برؤيتِه في الآيةِ «مقصودٌ به لازمُ معناه، وهو: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بمَحلِّ العنايةِ منه سبحانه، لأنَّه يعلَمُ توجُّهَه إلى اللهِ بالقيامِ له، ويَقبل ذلك منه، فهو يراك رؤيةً خاصَّةً -رؤيةَ إقبالٍ وتقبُّل- ويَراكَ في صلاتِك في جماعاتِ المسلمين في مَسجدِك، وهذا يَجمع مَعنى العِنايةِ بالمسلمين تَبعًا للعنايةِ برَسولِهم، وهذا مِن بَركتِه صلى الله عليه وسلم، وقد جَمَعها هذا التَّركيبُ القرآنيُّ العجيبُ الإيجازِ» (٥).

والقصدُ: أنَّ الآية لا دَلالة فيها صَريحة على ما ادَّعاه المُعترض، وغَايةُ ما قد يفهمه منها ظنِّيٌّ على التَّسليمِ بصحَّتِه، لاحتمالِها عِدَّة أوجه مِن التَّأويل، والدَّليلُ إذا تَطرَّق إليه الاحتمال، سَقَط به الاستدلال!

وبعد: فإنِّي ما رأيت للمتقدِّمين في مسألة مَصيرِ أَبِ النَّبي صلى الله عليه وسلم كلامًا كالَّذي خاضَ فيه المتأخِّرون مِمَّن أثارها وخاض غَمراتها (٦)، فتنازعوا فيها.


(١) انظر الأقوال في «جامع البيان» للطبري (١٧/ ٦٦٦)، و «زاد المسير» لابن الجوزي (٣/ ٣٥٠).
وزاد الماوردي على هذه الأربعةِ ثلاثةَ أوجهٍ أخرى في تأويل الآية، انظر كتابه «النُّكت والعيون» (٤/ ١٨٩).
(٢) «جامع البيان» (١٧/ ٦٩٩).
(٣) كما قرَّره البغوي في «معالم التنزيل» (٦/ ١٣٤)، والقرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (١٣/ ١٤٤)، وانظر «جامع البيان» (١٧/ ٦٩٩).
(٤) «روح المعاني» للآلوسي (١٠/ ١٣٤).
(٥) «التحرير والتنوير» لابن عاشور (١٩/ ٢٠٤) بتصرف يسير.
(٦) مِن أمثال السُّيوطي.

<<  <  ج: ص:  >  >>