للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فما وسِع الأوَّلين مِن السُّكوت وترك التَّنازع في مثل هذه المسائل هو الأسلَمُ لِمن كان حريصًا على دينِه، والسَّلامة في الوقوف عند النَّص الشَّرعي من غيرِ لَيٍّ للمَعنى أو طعنٍ في المبنى، اقتفاءَ هوىً في النَّفسِ يتوهَّم به نُصرةً للنَّبي صلى الله عليه وسلم في نَسَبه؛ وما أبعد ألأمر أن يكون كما اشتهى.

فأيُّ إذايةٍ له إذا ما نحن اتَّبعناه صلى الله عليه وسلم في قولِه؟! أَفَنكون أشفقَ منه على آبائه؟! وأيُّ نقصٍ يَلحقُ سيِّد الخلائق صلى الله عليه وسلم بكفرِ أبِيه؟! وهذا جَدُّه إبراهيم عليه السلام يَقصُّ الله علينا كُفرَ أبيه، وأبو إبراهيم عليه السلام أبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنَّسَبِ البعيد.

يقول البيهقي في مَعرض سَردِه لبعضِ الرِّواياتِ في شركِ بعضِ آباءِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: « .. وأمرُهم لا يَقدحُ في نَسَبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنَّ أنكحة الكُفَّار صحيحة، أَلَا تراهم يُسلِمون مع زوجاتِهم، فلا يلزمهم تجديد العَقد، ولا مُفارقتهنَّ إذا كان مثله يجوز في الإسلام» (١).

ولولا أنَّ المَقام هنا عِلميٌّ بَحت يَستدعي تحقيقَ القولِ في ما نُسِب إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن حُكمٍ قَوليٍّ، ودفعَ شُبَه المُبطلين عن منهجِ شيوخِ الإسلامِ في النَّقد، لمَا أجَزتُ لنفسي الكلامَ في مثل هذه المسألة أصالةً، وربِّي أعلمُ بحالِ قلبي وأنا أقرِّر في هذا المَبحث ما قرَّره الحديث، ولَودِدتُ لو وَجدتُ أنا أيضًا فُرجةً عِلميَّةً مُعتبرةً أتنصَّل مِن خلالِها مِن دلالةِ حديثِه، حُبًّا في ما يحبُّه النَّبي صلى الله عليه وسلم وتَقرُّ به عينُه، ولكنَّها الأمانة العلميَّة، والتَّجرُّد البَحثي، ولزومِ الغَرز النَّبويِّ.

وأنا في هذا كلِّه، عالمٌ بأنَّ التَّعظيمَ الحقيقيَّ لمحمَّدٍ -بأبي هو وأمِّي- هو في متابعة طريقتِه صلى الله عليه وسلم، والاهتداءِ بهَديِه، وتجنُّبِ نَهيِه، وإيثارِ سُنَّتِه على كلِّ أهواءِ الخَلْق، فمحبَّتُه أعظمُ مِن كلِّ مَحبوب منها، ولَن أكون أحبَّ له من أولياءِ الله الصَّالحين مِن سَلَف هذه الأمَّة، وقد قبِلوا الحديثَ وخَضَعوا لحُكمِه.

والله يَغفر لي تقصيري في حَقِّه.


(١) «دلائل النبوة» للبيهقي (١/ ١٩٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>