ومُحصَّل القول المفيد في هذا الحديث وأمثاله: أنَّ الفرق بين أهل العلمِ والمُعترضينَ المُحْدثين، يكمُن في أنَّ كِلا الفريقين رَأوا في الأحاديث حكايةَ فعلٍ نَبويٍّ يُعارض ما استقرَّ عندهم في الشَّريعة مِن النَّهي عنه: فأمَّا هؤلاء المُحْدَثون فهُرِعوا إلى تكذيبِ تلك الأخبار ضربة لازب! وأمَّا العلماء مع كونِهم أحرص على تنزيهِ نبيَّهِم صلى الله عليه وسلم مِن اقترافِ ما يخالف شرعَه، قد سَلكوا مَسْلكًا آخر أبْرَك، نَفوا فيه أن يكون هذا الفعلُ المُخبَر عنه مُخالَفةً مِن الأساس! وأثبتوا المَحْرميَّةَ بينهما مِن جِهةٍ ما، ويكفي دلالةُ فعلِه صلى الله عليه وسلم علىها، مضمومًا إليها مجموعُ القرائن التَّاريخيَّة وأقوالُ المتَقدِّمين المَسوقة آنفًا.
مثالُ هذه المنهجيَّة المَنطقيَّة في الاستدلال: عينُ ما سَلَكَه ابنُ عبد البرِّ للخلوصِ إلى هذه النَّتيجة، فقد قال:«لا يشكُّ مسلمٌ أنَّ أمَّ حرامٍ كانت مِن رسول الله لمحرمٍ، فلذلك كان منها ما ذُكر في هذا الحديث. .»، وذكرَ ما مرَّ من قولِ ابنَ وهبٍ وابن مُزين في إثباتِ الخؤولة مِن الرَّضاعة، ثمَّ زادَ أن ساقَ الأحاديثَ النَّاهيةَ عن الخلوة، ثمَّ عقَّب عليها قائلًا:« .. وهذه آثارٌ ثابتةٌ بالنَّهي عن ذلك، ومحالٌ أن يأتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يَنهى عنه»(١).
وبمثلِ هذا المسلكِ في معالجةِ المُشكلاتِ المَتنيَّة تأتلف النُّصوص ولا تختلف، ويُحفظ للحديثِ الصَّحيحِ مقامه، لا أن يُركنُ إلى إنكارِه لمجرَّد ما يبدو فيه من إشكالٍ؛ وبالله التَّوفيق.