للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليه صلى الله عليه وسلم مِن الاشتغالِ بالعِبادةِ والعلومِ والجهاد؛ فأرغَم أنوفَ الرُّهبانِ في التَّبتُّل! وأوصى بنكاحِ الوَلودِ نَدْبًا للتَّنسُّل!

هذا؛ وقد كان -بأبي هو وأمِّي- في غايةٍ مِن الجَهْد، والمُجاهداتِ، والمُكابَدات، حتَّى «خَرَج مِن الدُّنيا ولم يشبع مِن خبز الشَّعير» (١)؛ فمَن كانت هذه حاله، جرت عليه العادة بأن يَضعُف عن الجماعِ! إذْ كان مِن قَبيل الجمعِ بين الضِّدين، فإنَّ القُوَّة في النِّكاحِ لا تجامع قِلَّةَ الغذاءِ، لا طِبًّا ولا عادةً، إلَّا أن يَقَع على وَجهِ الخرقِ للعادةِ! وهذا ما أكرمَه به مَوْلاه في جملةِ ما وَهَبه مِن آياتٍ تخصُّه عن سائر النَّاس، لِيجمَعَ له بين الفَضيلتين في الأمور الاعتياديَّة، فيكونَ حاله كاملًا في الدُّنيا كما هو كامل في الآخرة (٢).

ولله دَرُّ الخطَّابي حينَ أفصحَ عن هذه المعاني الرَّاقية بعباراتٍ جزلةٍ، ينافح بها عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم أشباهَ شُبَهِ زمانِنا كانت في زَمنه، أنقلها مع طولِها لحُسنِها، يقول فيها:

«لقد سألوا عن إباحةِ الزِّيادة مِن عَددِ النِّساء للنَّبي صلى الله عليه وسلم، على مَبلغِ العَدد الَّذي أُبيح منهنَّ لأمَّته! وعن معنى ذلك! وفي إباحةِ المَوهوبة له!

وهذا بابٌ له وَقع في القلوبِ، وعَلقٌ بالخواطرِ مِن النُّفوس، وللشَّيطان مَجالٌ في الوَسواس به، إلَّا عند مَن أُيِّد بفضلِ عقلٍ، وأُمِدَّ بزيادةِ علمٍ.

وأوَّل ما ينبغي أن يحصُل مِن تَقدِمَة العلمِ في هذا: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان بَشرًا، مخلوقًا على طِباعِ بني آدم في بابِ الأكلِ، والشُّرب، والنَّوم، والنِّكاح، وسائرِ مَآرب الإنسانِ الَّتي لا بَقاءَ له إلَّا بها، ولا صَلاح لبَدَنِه إلَّا بأخذِ الحظِّ منها، والنَّاس مُختلفون في تركيبِ طِباعهم، ومبلغ قُواهم.

ومَعلوم بحكمِ المشاهدة، وبالامتحانِ مِن جِهة دلائلِ عِلْم الطِّب: أنَّ مَن صَحَّت خِلقتُه، وقويت بِنْيتُه، فاعتدلَ مِزاجُ بَدنِه، حتَّى تكون نُعوته ما نَطقَت به


(١) أخرجه البخاري في (ك: الأطعمة، باب: باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون، رقم: ٥٤١٤).
(٢) انظر «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (٣/ ٢٨١)، و «المُفهم» (١٥/ ٨١)، و «عارضة الأحوذي» (١/ ٢٣١)، و «فيض القدير» (١/ ٩٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>