للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأخبار المتواترة مِن صِفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نُعِت به فيها مِن صلاحِ الجسمِ، ونضارة اللَّون، وإشراب الحُمرة، وإشعار الذِّراعين والصَّدر، مع قوَّة الأسر، وشِدَّة البطش: كان دَواعي هذا الباب له أغلب، ونزاع الطَّبع منه إليه أكثر، لأنَّ هذه الفطرة الَّتي لا أفضل منها في كمال الخِلقة، ولا أقْوم منها في اعتدال البِنْية، وكان ما عداها مِن الخَلق، وخالفها مِن النُّعوت منسوبًا إلى نقصِ الِجبلَّة، وضَعفِ النَّحِيزة (١).

وكانت العَرَب -خصوصًا- تَتباهى بقوَّةِ النِّكاح، وكثرة الوِلادة، وتَذمُّ مَن كان بخلافِ هذا النَّعت ... وكان قلَّةُ الرَّزءِ (٢) مِن الطَّعام، والاجْتِزاء بالعُلْقة من ذلك، والاكتفاء باليسير منه، في مذهب الحَمْد عِندهم والثَّناء والمدْح به: مُضاهيًا لمذْهَبِهم في المَدْحِ بالقوَّة على النِّكاح، وكثرةِ النَّسلِ والوِلادِ، وعلى العكس منه أن يكون رَغيبًا أكولًا ..

قالت المرأة: (ابنُ أبي زَرْع، فما ابنُ أبي زَرْع! مَضْجِعُه كمسَلِّ شَطْبَة (٣)، وتُشْبِعُه ذِراع الجَفْرة (٤) .. )، تمدحُه بقلَّة الطُّعم كما ترى ..

فهذا مذهبهم في هذا الشَّأن، ومَعانيهم في هذا الباب، فتأمَّل كيف اختارَ الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في كلِّ واحدٍ مِن الأمرين، فجَمَع له الفضائل الَّتي يزداد مِن أجلها في نفوسِهِم جلالةً، وفي عيونهم قدْرًا وفخامةً، ومِن النَّقائضِ الَّتي يُزدرَى بها أهلها نزاهةً وبراءةً، .. هذا إلى ما بعثه الله به مِن الشَّريعة الحنيفيَّة الهادمة لما


(١) النَّحيزة: طبيعة الإنسان، انظر «المخصَّص» لابن سيده (١/ ٢٣١).
(٢) الرَّزءُ: أصل واحد يدل على إصابة الشَّيء والذَّهاب به، يقال: ما رزأته شيئًا، أي: لم أُصب منه خيرًا، فالرَّزء: المصيبة، انظر «مقاييس اللغة» (٢/ ٣٩٠).
(٣) مَسَلُّ الشَّطْبة: أصل الشَّطبة: ما شُطب مِن الجَريد وهو سَعفة، فيُشقُّ منه قُضبان رقاقٌ تُنسج منه الحُصرِ، قال ابن الأعرابي: أرادت به: سَيْفًا سُلَّ مِن غِمده، فمضجعُه الَّذي ينام فيه في الصِّغر كقدرِ مسلِّ شطبةٍ واحدةٍ، انظر «فتح الباري» لابن حجر (٩/ ٢٧٠).
(٤) الجَفرة: هي الأنثى من وَلد المعز إذا كان ابن أربعة أشهر، وفُصل عن أمِّه وأخذ في الرَّعي، شَّبهته به لقلَّة أكله، انظر المصدر السابق.

<<  <  ج: ص:  >  >>