للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان عليه الأمر في دين النَّصارى مِن التَّبتلِ، والانقطاعِ عن النِّكاح، وهجرانِ النِّساء، فدعا إلى المُناكحةِ والمواصلةِ، وحَضَّ عليهما .. » (١).

وأمَّا دعوى المعارضة الثَّانية من أنَّ في الحديث هَتكًا لحُرمةِ بيتِ النُّبوة، وذِكرًا لخواصِّ فِراشِه بلا ضرورَة، ومُخالفةً للنَّهيِ عن قُربانِ الحُيَّض:

فليَعْلَم المُعترض بهذا أنَّ لفظَ المُباشرة في كلامِ عائشة رضي الله عنها ليس مرادًا منه جماع، ولكن مُقدِّماتُه؛ وذلك قول العَرب: باشَرَ الرَّجل امرأتَه مُباشرةً وبِشارًا: إذا كان معها في ثوبٍ واحدٍ، فوَلِيت بَشرتُه بَشرتَها (٢).

والَّذي يدلُّ على هذا المعنى مِن حديث عائشة نفسِه، قولها رضي الله عنها: « .. أمَرَها أن تَتَّزر»، أي: أن تَلُفَّ عليها إزارًا، مِن السُّرَة إلى الرُّكبة، أو قريبًا مِن ذلك (٣)، بحيث يحول ذلك دون مُلامسة الفَرْجِ وما حوله، والنَّظر إليه.

فبِمثل هذه السُنَنِ العمليَّة ينبغي للمسلمِ فهم معنى الاعتزال في قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}؛ أي أنَّه اعتزالٌ مَخصوصٌ بمَوْضعِ الأَذَى، فلا يُجامَعنَ في الفرجِ، ويبقى ما دون ذلك على الإباحةِ الأصليَّةِ.

ذلك أنَّ من سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الحَيْض قومٌ مِن أهل المدينة، وقد كانوا قبل بيانِ الله لهم ما يَتبيَّنون مِن أمرِ ذلك لا يُساكِنون حائضًا في بيتٍ! ولا يُؤاكلونهنَّ في إناءٍ ولا يشاربونهنَّ! فعَرَّفهم الله بهذه الآية أنَّ الَّذي عليهم في أيَّامِ حيضِ نسائِهم: أن يجتَنِبوا جِماعَهُنَّ فقط، دون ما عَدا ذلك مِن مُضاجَعِتهنَّ، ومُؤاكلِتهنَّ، ومُشارَبتِهنَّ (٤).

ترى حقيقة هذا المعنى في خَبرِ أنس رضي الله عنهقال: إنَّ اليهود كانوا إذا حاضَت المرأةُ فيهم، لم يُؤاكلوها، ولم يُجامعوهنَّ في البيوت، فسَألَ الصَّحابة النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم،


(١) «أعلام الحديث» (٣/ ٢٠٠٧).
(٢) انظر «لسان العرب» (٤/ ٦١، مادة: ب ش ر).
(٣) على خلاف بين العلماء في تحديد ما يُؤتزَر من جسم المرأة، انظر «التمهيد» لابن عبد البر (٥/ ٢٦٢).
(٤) انظر «جامع البيان» للطبري (٣/ ٧٢١).

<<  <  ج: ص:  >  >>