للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: ٢٢٢]، إلى آخر الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اِصنعوا كلَّ شيءٍ إلَّا النِّكاح»، فبَلَغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يُريد هذا الرَّجل أن يدَعَ مِن أمرِنا شيئًا إلَّا خالفنا فيه!» (١).

فكما أنَّه صلى الله عليه وسلم بيَّن جوازَ المباشرة للحُيَّضِ بقولِه في جوابِه لأصحابه، أكَّد هذا البيانَ اللَّفظيَّ بفعلِه، فنَقَلت زوجُه عائشة رضي الله عنها هذا البَيانَ الفِعليَّ لأمَّتِه، كي لا يبقى مَقالٌ لمُتأوِّل، وأفادَت أمرَه صلى الله عليه وسلم لهنَّ بالاتِّزارِ مِن بابِ الحِيطة.

هذا كلُّ ما في الأمر! فيا بُعد ما أخبرَت به أمُّ المؤمنين عمَّا ادَّعاه المعترض مِن هَتكِ حُرمةِ النُّبوة! ويا سُحقَ ما أجملت في بيانِه رضي الله عنها عن إفشاءِ سرِّ الزَّوجيَّة!

وأمَّا الشُّبهة الثَّالثة من دعوى المعترض أنَّ الإخبارَ بإكسالِه مع زوجِه مُشيرًا إليها، غَضًّا لما عُلِم عنه صلى الله عليه وسلم مِن شدَّة الحياء .. إلخ، فيُقال في كشفِها:

ليس في ذكرِ الرَّجلِ لجماعِ أهلِه بمُجرَّدِه إفشاءً لسِرِّ زوجِه ولا هتكًا لأستارِ الحياء؛ إنَّما العَيْبُ أن يُفشيَ الزَّوج ما يجري بينه وبينها مِن أمورِ الاستمتاع وتفاصيل ذلك؛ هذا المُستهجَن عُرْفًا والمُحرَّم شرعًا.

أمَّا مجرَّد ذكر الجِماع، فيقول النَّوويُّ: «إن لم تكُن فيه فائدةٌ، ولا إليه حاجة: فمَكروه، لأنَّه خلافُ المُروءة» (٢)، والفائدة في هذا الحديثِ ظاهرة، والمصلحة فيه مُتحقِّقة!

فإنَّ جوابَه صلى الله عليه وسلم للسَّائل بحكايةِ فعلِ ذلك مِن نفسِه: تعليمًا له بأوقعِ عبارةٍ في نفسِه، وترسيخًا للحكمِ بأوكدِ أسلوبٍ في ذهنه، مع ما فيه مِن زيادة البَيانِ، ونفيٍ للرِّيبة والظُّنون، فجازَ الجواب بتلك العِبارةِ، ولو بحضرةِ الزَّوجِ، إذا تَرتَّب مثلُ ما ذُكِر مِن المصلحة، شرطَ انتفاءِ وقوعِ أذىً وإحراج، وهو ما عَلِم النَّبي صلى الله عليه وسلم -بحسبِ معرفتِه بأحوالِ السَّائل ومُستسَاغِ عُرفِه- انتفاءَه حالَ المسألة.


(١) أخرجه مسلم في (ك: الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه، رقم: ٣٠٢).
(٢) «شرح النووي على مسلم» (١٠/ ٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>