للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا القول مَبنيٌّ على أنَّ الأصلَ في اللُّغةِ: رجوع الضَّمير إلى أقربِ مَذكورٍ، والشَّاهد على هذا العَوْدِ عندهم، قوله صلى الله عليه وسلم بعدها في نفسِ الحديث: « .. طولُه ستُّون ذراعًا»، فعادَ الضَّميرُ أيضًا على آدم (١).

وفي تقريرِ هذا المعنى للحديثِ، يقول ابن حبَّان: «هذا الخبر تَعَلَّق به مَن لم يُحكِم صناعةَ العِلم، وأخَذَ يُشنِّع على أهلِ الحديثِ الَّذين يَنتحلون السُّنَن، ويَذبُّون عنها، ويَقمعون مَن خالفها، بأنْ قال:

ليست تخلو هذه الهاء مِن أن تُنسَب إلى الله أو إلى آدم؛ فإن نُسِبَت إلى الله: كان ذلك كُفرًا، إذْ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}! وإن نُسِبَت إلى آدم: تَعرَّى الخبرُ عن الفائدة، لأنَّه لا شكَّ أنَّ كلَّ شيءٍ خُلِق على صورتِه لا على صورةِ غيره!

ولو تَملَّق قائلُ هذا إلى بارئِه في الخلوة، وسأَله التَّوفيقَ لإصابةِ الحقِّ، والهداية للطَّريق المستقيم في لزومِ سُنَن المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكانَ أوْلى به مِن القَدح في مُنتَحِلي السُّنَن بما يجهل معناه، وليس جهلُ الإنسان بالشَّيءِ دالًّا على نَفْيِ الحقِّ عنه لجهلِه به.

ونحن نقول: إنَّ أخبارَ المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا صَحَّت مِن جهةِ النَّقل لا تَتَضادُّ، ولا تَتَهاتَر، ولا تَنسخُ القرآن، بل لكلِّ خَبرٍ معنىً معلومٌ يُعلَم، وفصلٌ صحيحٌ يُعقل، يعقِله العالمون.

فمعنى الخبر عندنا بقوله صلى الله عليه وسلم: «خَلق الله آدم على صورتِه»: إبانةُ فضلِ آدم على سائرِ الخلقِ، والهاء راجعةٌ إلى آدم، والفائدةُ مِن رجوع الهاء إلى آدم دون إضافتها إلى البارئِ جلَّ وعلا -جلَّ ربُّنا وتعالى عن أن يُشبه بشيءٍ من المخلوقين-: أنَّه جلَّ وعلَا جَعَلَ سبَبَ الخَلْقِ الَّذي هو المُتحرِّك النَّامي بذاتِه اجتماعَ الذَّكر والأنثى، ثمَّ زوال الماء عن قرارِ الذَّكر إلى رحِم الأنثى، ثمَّ تَغيُّر ذلك إلى العَلَقة بعد مُدَّة، ثمَّ إلى المضغة، ثمَّ إلى الصُّورة، ثمَّ إلى الوقت


(١) انظر «الكواكب الدَّراري» للكرماني (٢٢/ ٧٢)، و «طرح التثريب» للعراقي (٨/ ١٠٤)، و «فتح الباري» لابن حجر (٦/ ٣٦٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>