للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يوجد الكذب في الشَّريعة واجبًا، كتخليصِ المُسلم مِن الظَّالم، وقد يوجد مُستحبًّا، ككذبٍ يدفع الضَّرر عن الكاذب .. ، وقد يكون مُباحًا ككذبِ الرَّجل لأهلِه» (١).

فإذا كان الكذب في نفسِه منه المَمدوح والمَذموم، لم يمكن أن يُقال أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم مَدَح جدَّه عليه السلام بالكذبِ المَذمومِ! فلذا نراه قد قيَّدَ وصفَه لها بكونها كذبًا «في ذاتِ الله»، «والقصدُ بهذا التَّقييد منه صلى الله عليه وسلم نفيُ مَذمَّةِ الكذبِ عنه عليه السلام، لجلالةِ قدرِه في الأنبياءِ -صلواتُ الله عليه وعليهم أجمعين-» (٢).

وإنَّما انحادَ النَّبي صلى الله عليه وسلم عن وصفِها بالمَعاريضِ إلى وصفِها بالكذباتِ: تأكيدًا للمَدحِ بما يُشبه الذَّم! كقولِ النَّابغةِ (٣):

ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سُيوفَهم *** بهنَّ فُلولٌ مِن قِراعِ الكَتائبِ (٤)

وهذا الأسلوب يحسُن مثلُه حيث يكون المُستثنَى واضحَ الخروجِ مِن المُستثنَى منه -كما في هذا البيتِ المُستشهَد به- وهو الحاصل من النَّبي صلى الله عليه وسلم في كلماتِ إبراهيم عليه السلام، فإنَّ الثَّلاثة المُستثناة ظاهرةٌ في خروجِها عن حَدِّ الكذبِ المَحْضِ المَذمومِ (٥).


(١) «عارضة الأحوذي» لابن العربي (١/ ٢٣).
(٢) «المُعلِم» للمازري (٣/ ٢٢٨).
(٣) هو زياد بن معاوية الذُّبياني أبو أمامة (ت ١٨ قبل الهجرة)، شاعر جاهليٌّ، من الطَّبقة الأولى، من أهل الحجاز، كانت تُضرب له قبة بسوق عكاظ، فتقصده الشعراء لعرض أشعارها، انظر «أشعار الشعراء الستة الجاهليين» للشَّنتمري (ص/٢٦).
(٤) انظر «أمثال العرب» للمفضل الضَّبي (ص/١٧٠).
(٥) بخلاف ما نحا إليه المعلِّمي في «إرشاد العامَّة إلى معرفة الكذب وأحكامه» (١٩/ ٢٤٩ الآثار)، حيث رأى أنَّها غير ظاهرة في خروجها من المُستثنى منه، لأنَّ تلك الكذبات مذمومة، بدعوى أنَّها سُميت في رواية أخرى بـ «خطيئة»، في قوله صلى الله عليه وسلم عن إبراهيم في حديث البخاري (رقم: ٧٤١٠): «لستُ هناكم، ويذكر خطاياه الَّتي أصابها .. »، قلتُ: إطلاق الخطايا عليهنَّ هنا هو باعتبارِ اعتقادِ قائلهنَّ، كما كان إطلاق الكذب عليهنَّ باعتبارِ سامعِهنَّ، فكما نفينا عن هذه حقيقة الكذب، نفينا عن تلك حقيقة الخطيئة.

<<  <  ج: ص:  >  >>