للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فبان بهذا أنَّ ما بَدَر مِن إبراهيم عليه السلام مِن جوابِ قومِه لم يقصد به إلَّا إثباتَ الفعلِ لنفسِه على الوجهِ الأبلغِ، مُضمَّنًا فيه الاستهزاءَ والتَّضليل، مُنتَفِيًا عنه العِلَّة مِن تحريمِ الكَذِبِ، فدَلَّ أنَّه خَرَج مَخرجَ التَّعريض، «كما إذا قال لك أُمِيٌّ فيما كتبته بخطٍّ رشيقٍ، وأنت شهيرٌ بحسنِ الخطِّ: أأنتَ كتبتَ هذا؟ فقلتَ له: بل كتبتَهُ أنتَ! فإنَّك لم تقصِد نَفْيَه عن نفسِك، وإثباتَه للأُمِيِّ، وإنَّما قصدتَ إثباتَه وتقريرَه لنفسِك، مع الاستهزاءِ بمخاطَبك» (١).

وهذا ما سيفهَمه الأُميُّ نفسُه -بل وأيُّ إنسانٍ عاقلٍ- مِن هذا الأسلوب مِن الخطاب.

والثَّالثة: قوله عليه السلام لزوجِه سارةَ: «أخبريه أنَّكِ أُختي»:

فلا أوضحَ مِن تَعليلِ إبراهيم عليه السلام نفسِه لأمرِه إيَّاها بقوله لها: «فإنَّك أختي في الإسلام» مِن بابِ التَّعريضِ والتَّوريةِ في الكلامِ، فإنَّ مَن سَمَّى المسلمةَ أُختًا له قاصدًا أُخوَّة الإسلامِ، فليس بكاذبٍ قطعًا.

لكنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم وجدَّه إبراهيم عليه السلام إنَّما أطلقَا عليه لفظَ الكذبِ: لمِا هو مقرَّرٌ «أنَّ الأختَ في الحقيقةِ المشاركةُ في النَّسَب، وأمَّا المشاركة في الدِّين فأختٌ على المَجاز، فأرادَ أنَّها كِذبةٌ على مُقتَضَى حقيقةِ اللَّفظةِ في اللُّغة» (٢) وعُرفِ النَّاس، لا أنَّها كذلك في حدِّ الحقيقةِ، ولكن من بابِ التَّجوُّزِ والتَّوسُّع في الكلامِ، لِتصَوُّرِها بصورةِ الكذِب في الظَّاهرِ، كما قد أقررناه سابقًا.

والنَّبي صلى الله عليه وسلم وإنْ تَوسَّعَ في إطلاقِ لفظِ الكذبِ على كلماتِ إبراهيم عليه السلام، مع كونِهنَّ مِن جملةِ المَعاريض: فليسَ يريد مع ذلك أنَّها تُذَمُّ منه عليه السلام، فإنَّ نفسَ الكَذبِ وإن كان في أصلِه قبيحًا، لكنَّه يحسُن في مَواضعَ (٣)!

يقول ابن العربيِّ: «الكذب هو الخَبر عن الشَّيء بخلافِ مخبَرِه، كان بقصدٍ أو بغير قصدٍ، مَأذونًا فيه أو غير مأذون، ولم يُحرَّم لعينِه، ولا قُبِّح لذاته، لأنَّه قد


(١) «روح المعاني» للآلوسي (٩/ ٦٣).
(٢) «المعلم» للمازري (٣/ ٢٢٨).
(٣) انظر «فتح الباري» لابن حجر (٦/ ٣٩٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>