للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تقديرِ أنَّها تَعقِلُ وتفعل، لاحتُمِلَ أنَّ الكبيرَ غَضِبَ مِن عِبادةِ الصِّغار معه، يشيرُ إلى أن رَبَّ العَالمين سبحانه يَغضبُ مِن عبادةِ شيءٍ دونه معه (١).

يقول ابن حزم: «فلَم يَقُل إبراهيم عليه السلام هذا على أنَّه مُحَقَّق، لأنَّ كبيرَهم فعَلَه، إذْ الكَذِبُ إنَّما هو الإخبارُ عن الشَّيءِ بخلافِ ما هو عليه قصدًا إلى تحقيقِ ذلك» (٢).

فإذا تقرَّر أنَّ كلمات الخليلِ عليه السلام ليست كَذِبًا في حقيقتِها، لانتفاءِ قصدِه الإخبارِ عن الشَّيء بخلافِ ما هو عليه -وهذا ما حَدَّ به ابن حزمٍ تعريفَ الكذِب كما رأيتَ- فإنَّ وجه تسميتِه لهذه المقالةِ كذبًا في حديث الشَّفاعةِ (٣) هو مِن قبيل المَجازِ كما سبق أن قرَّرناه.

يقول الطَّاهر ابن عاشور:

«الكلامُ والأخبارُ إنمَّا تَستقِرُّ بأواخِرِها وما يَعقُبها، كالكلامِ المُعقَّب بشرطٍ أو استثناءٍ، فإنَّه لما قَصَد تنبيهَهم على خطأِ عبادتِهم للأصنامِ، مَهَّد لذلك كلامًا هو جارٍ على الفَرْضِ والتَّقدير، فكأنَّه قال: لو كان هذا إلهًا لما رضِيَ بالاعتداءِ على شركائِه، فلمَّا حَصل الاعتداء عليهم بمَحضرِ كبيرِهم تَعيَّن أن يكون هو الفاعل لذلك، ثمَّ ارتقى في الاستدلالِ بأن سلَبَ الإلهيَّة عن جميعِهِم بقولِه: {إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} كما تقدَّم.

فالمُراد مِن الحديثِ: أنَّها كذِباتٌ في بادئِ الأمرِ، وأنهَّا عند التَّأمل يظهر المقصود منها، وذلك أنَّ النَّهي عن الكذبِ إنمَّا عِلَّته: خَدْعُ المُخاطَب، وما يَتسبَّب على الخبر المَكذوبِ مِن جَريان الأعمالِ على اعتبارِ الواقعِ بخلافِه، فإذا كان الخبر يُعقَب بالصِّدق، لم يكُن ذلك مِن الكذب، بل كان تعريضًا، أو مَزحًا، أو نحوهما» (٤).


(١) انظر «المحرَّر الوجيز» لابن عطية (٤/ ٢٦٢)، و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (١١/ ٢٩٩ - ٣٠٠).
(٢) «الفِصل في الملل والأهواء والنحل» (٤/ ٥).
(٣) سيأتي الكلام عن الحديث قريبًا.
(٤) «التحرير والتنوير» لابن عاشور (١٧/ ١٠٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>