للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فبِنَظَرِ إبراهيم الخليل عليه السلام إلى جِهة خلاف الواقع مِن جِهَتَيْ المعاريض، أطلَقَ على كلماتِه اسمَ الكذِب، ولو لم يُخبِر إلَاّ صِدْقًا (١)، ولكن قد سُمِّيت كذلك مِن بابِ التَّوسُّعِ في اللَّفظ.

يتبيَّنُ هذا جَليًّا في مثالِ كلماتِه الثَّلاث:

الأولى: نظرُه {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}:

فقد كان اعتقاد قومِ إبراهيم عليه السلام النَّظرُ في النُّجوم والكواكبِ، والاستدلالُ بها على ما سيحدُث، وهو ضَربٌ مِن ضُروبِ عبادَتِهم وتَعلُّقِهم بها (٢)، فأراد إبراهيم أن يوهِمَهم بنظرِه في النُّجومِ بأنَّه عَرَف مِن دَلَالتِها أنَّه سيَسقُم في المُستقبَل العاجل، وقَوَّى ذلك عندهم أنَّ كلَامَه عليه السلام كان في مَعرضِ اعتذارٍ عن الخروجِ معهم، فالأنفعُ له والحالةُ هذه القَرار.

فقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ}: أرادَ به في المستقبلِ، بقرينةِ نظَرِه في النُّجوم، وإيهامِه المَذكور، وما كَذّب عليه السلام في أنَّه سيسقَمُ؛ فإنَّ كلَّ إنسانٍ لا بُدَّ أنَّه مُعَرَّض لسَقَمٍ، وإنَّما أرادَ أن يتركوه ليَتَوَصَّل إلى تَكسيرِ أصنامِهم (٣).

والثَّانية: قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}.

فليس قَصْدُ إبراهيمَ عليه السلام نسبةَ الفعلِ الصَّادِرِ عنه إلى الصَّنَم، وإنمَّا قَصَد تقريرَه لنفسِه وإثباتَه لها على أسلوبٍ تَعريضيٍّ يبلُغ فيه غَرَضَه في إلزامِهم الحُجَّة وتبكيتِهم.

فمُرادُه عليه السلام كان جَلِيًّا عند المُخاطَبِ أنْ يَتدبَّرَ حالَ مَعبوداتِه، كما ينبِّئ عنه قولُه بعدها: {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء: ٦٣]، قاله تَهكُّمًا بهم، وتَعريضًا بأنَّ ما لا يُعرِب عن نفسِه، ولا يَدفع عنها، غيرُ أهلٍ للإلَهيَّة، وعلى


(١) انظر «المحرر الوجيز» لابن عطيَّة (٤/ ٤٧٨)، و «مجموع الفتاوى» (٢٨/ ٢٢٣) و «الاستغاثة» (ص/٤٠٨) لابن تميَّة، و «مفتاح دار السعادة» لابن القيم (٢/ ٣٦)
(٢) انظر «الفِصل» لابن حزم (٤/ ٦).
(٣) «رفع الاشتباه» للمعلِّمي (٢/ ٤٥٤ آثار المعلمي)، وانظر «جامع البيان» لابن جرير (١٩/ ٥٦٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>