للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمَّا إخراجُه بين أظهرهِم عُريانًا ففيه تحقيقٌ لمصلحةِ البراءةِ، وقد علِمنا إباحةَ ذلك في الأصلِ (١)، ولولا هذه الإباحة لمَا قُدِّر لموسى عليه السلام مِن ذلك حتَّى يُبرَّأ عندهم ممَّا آذوه به، فـ «إنَّ الله لا يقدِّر لنبيِّه ما ليس بجائزٍ في شَرْعِه» (٢).

أمَّا افتراضُ المعترضِ أوْلوِيَّةَ بَقاءِ موسى عليه السلام في مكانِه، حتَّى يُؤتى بثيابِه أو بساترٍ غيرها (٣):

فإنَّ هذا من المُعترض مُقتَضى عجزِه عن مَزيدِ تأمُّلٍ لحَيْثِيَّاتِ الواقعةِ! وذلك أنَّ موسى عليه السلام كان في خَلوةٍ وحده كما هو ظاهر الخَبَر، فليس ثَمَّة في ظنِّه مَن يَعْلَم بحالِه حتَّى يطلب منه بسَاترٍ! فلذا طَفِق يتبعُ الحَجَر بنفسه، فاتَّفَقَ أنْ جازَ على مقربةٍ من رجالٍ مِن قومِه فرَأَوه، فإنَّ جوانِبَ الأنهارِ -وإنْ خَلَتْ- لا يُؤمَن وجودُ قريبٍ منها، وقد بَنىَ موسى عليه السلام الأمرَ أنَّه لا يَراه أحَدٌ على ما رآه مِن خَلاءِ المكانِ، حتَّى وَقَف عند مَجلسٍ لبني إسرائيل، فكان فيهم مَن قال فيه ما قال (٤).

وأمَّا جواب المعارضةِ الثَّانية في دعوى المعترض سَفَاهة غضبِ موسى على الحَجٍ، وهو يعلمُ أنَّه مَقسورٌ على ذلك، مع ضَربِه ومُناداتِه وهو جمادٌ لا يَعقِل! فيُقال في جوابِه:

إنَّ موسى عليه السلام وإن كان نَبيًّا مِن أنبياء الله تعالى، لا يخرجه ذلك أن يكون مِن جملةِ بني آدم ممَّن تغلِبُ عليه طِباعُ البَشَر.

فلِفَجأةِ ما ابتُلي به مِن ذهابِ ثيابِه، واستفظاعِه لانكشافِ عَوْرَتِه: لم يَلْوِ على شيءٍ إلَّا رَدَّ ثيابِه قبل أن يُرَى على ما يكرَه هو، وهذا مَقامٌ صَدْمَةٍ يَذهلُ فيه الرَّجل عن تَحَقُّقِ سَببِ تلك الحَركة، كما كان ذَهَل هو نفسُه بغَضَبِه عمَّا بِيَدِه، حتَّى {أَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: ١٥٠]!


(١) «طرح التثريب» (٢/ ٢٢٥).
(٢) «فتح الباري» لابن رجب (١/ ٣٣٠).
(٣) «أبو هريرة» لعبد الحسين الموسوي (ص/٨٩).
(٤) انظر «كشف المشكل» لابن الجوزي (٣/ ٤٩٦)، و «فتح الباري «لابن حجر (٦/ ٤٣٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>